قرأتها لأول مرة وأنا صغير في مقال أو كتاب – لا أذكر بالضبط – لأحد الكتاب المشهورين وهو يرد بها على “شبهة” الإسلاميين التي تقول أن علينا الانصياع للشرع في أمور السياسة والاقتصاد وما شابه ، فرد كالوحش الكاسر بقول قاطع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أنتم أعلم بأمور دنياكم) والسياسة والاقتصاد من أمور الدنيا وبالتالي ليس للدين فيها دخل ، وعلى حداثة سني ورغم أنني لم أكن – للأسف- مهتما بأمر الدين والتدين ولم يكن لي أي توجه إلا أن هذا الاستدلال لم يستطع أن يسكن عقلي الذي يشبه الورقة البيضاء لكل من أراد أن يخط فيه شيئا وظل معلقا في ذهني بين القبول والرفض إلى أن علمت رواية الحديث كاملة وسياقه ومناطه الصحيح كما سيتبين ،، ولم يأت ببالي بعد ذلك أنه من الممكن أن أجد مسلما عاقلا ذا منطق يستدل به بعدما يعرف سياقه بل وبعدما يعمل عقله ولو لدقائق كما سيتبين أيضا..
(1) الحديث عن أنس بن مالك أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مرَّ بقومٍ يُلقِّحون . فقال ” لو لم تفعلوا لصلَح ” قال فخرج شِيصًا . فمرَّ بهم فقال ” ما لنخلِكم ؟ ” قالوا : قلتَ كذا وكذا . قال ” أنتم أعلمُ بأمرِ دنياكم ” .. رواه مسلم .. هل تأملت السياق؟؟ هل فهمت المناسبة؟؟ إذن تعال معي..
(2) أمر الدنيا إن أهم ما نحتاج إليه في هذا التأمل أن نعي مفهوم “أمر دنياكم” ،، لقد أنزل الله عشرات الآيات ، وأوحى إلى رسوله عشرات ومئات الأحاديث (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ( 3 ) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ( 4 )) في أمور الحكم والدولة وحقوق الراعي والرعية وأمور الجنايات والاقتصاد والبيوع والمعاملات والمعاهدات والحروب والأسر والسلام وغير ذلك من الأمور التي تسمى في زماننا هذا بـ “السياسة والاقتصاد” فهل يعد الأمر الذي جاءت فيه كل هذه النصوص من أمور الدين أو الدنيا؟ هل أنزل الله هذه الآيات عبثا؟ هل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأحاديث سدى؟ ثم جاء الحديث الذي يتخذ القوم مقطعا منه علكة في أفواههم ليمحو كل ذلك ويجعله ككلمات وطلاسم مكتوبة على الورق ومحفوظة في الصدور لا طائل من ورائها ولا حجة لها؟؟ هل يعقل هؤلاء القوم ما يقولون وما ينظرون به؟! هل أصبحت كل هذه الأمور بكل هذه النصوص من المباحات وأمور الدنيا التي يترك للعقل البشري تدبيرها؟؟ مالكم كيف تحكمون؟ وفي دين الله تطعنون؟ وتزعمون بذلك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأنتم عمليا تكذبون وتعطلون الكتاب الذي نزل عليه والسنة التي أوحيت إليه؟
إن في هذا الحديث المفترى عليه دلالة واضحة وتفريق واضح بين ما هو ديني وما هو دنيوي متروك لتقدير العباد واجتهادهم وتنافسهم المطلق ،، إن هذا الفرق وعاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عندما كانوا يسألونه في المعارك قبل اقتراح الخطة إذا كان الموضع الذي اتخذه الحبيب صلى الله عليه وسلم موضع أوحاه الله إليه فليس لهم أن يتقدموا أو يتأخروا عنه وإن خالف تصوراتهم وخبراتهم الدنيوية العسكرية ، أو أنه من الأمور المتروكة للاجتهاد والحرب والمكيدة والخبرات العسكرية ،، فعندما يكون الأمر الثاني يقترح الصحابة وتنعقد الشورى ويسمع القائد رسول الله صلى الله عليه وسلم وينفذ ما يراه أصحاب الخبرة ويتراجع عن رأيه البشري في وضع الخطة كما تراجع عن رأيه البشري في أمر النخل ، ولكن إذا كان في الأمر وحي وتشريع فلم يعد الأمر أمرا دنيويا واجتهادا ماديا ، وفي صلح الحديبية – الذي ابتذله المبتذلون – مثالا واضحا ، فقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم الصلح رغم مخالفته لرأي أغلب الصحابة ورؤيتهم، وتمسك به ولم ينزل على رأي أهل الشورى كما فعل مرارا في المعارك وهنا لم يعد يتحدث بمقام القائد العسكري والسياسي ولم يطرح الأمر للمناقشة السياسية والعسكرية ليقنعهم ولكن ذكّر بمقام النبوة والرسالة ( يا ابنَ الخطابِ ! إني رسولُ اللهِ . ولن يُضيِّعني اللهُ أبدًا ) رواه مسلم.. ونزلت فيه على قول أكثر المفسرين آية ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)..
إذن فعلى المسلم ببساطة قبل أن يقدم على شيء أن يستبين إذا ما كان في هذا الأمر تشريع فيلتزمه أم أنه من المباحات التي تركت للدراسة والاجتهاد ، ويدخل في ذلك العلوم الإنسانية المختلفة كعلم الفيزياء والكيمياء والأحياء والطب والهندسة بل وعلم الزراعة والوراثة الذي جاء في الحديث فهو من أمور دنيانا ما لم يخالف أيضا تشريعا آخر في أي تفصيلة من التفاصيل كأن يسبب – مثلا -ضررا للناس مخالفا (لا ضرر ولا ضرار) وما شابه ، أو ينشأ علم كامل يصطدم مع الشرع في مواطن لا يمكن إحصائها كعلوم الرقص والغناء في زماننا ثم نقول هي من أمور دنيانا! . فليت شعري بأي عقل ومنطق وشرع يتكلم هؤلاء القوم .. وبأي منطق وشرع فرقوا بين السياسة والاقتصاد وبين الزواج والطلاق والجنائز والتي هي أيضا إذا طبقنا منطقهم من أمور دنيانا ورغم ذلك يلتزمون فيها بالشريعة على حد كبير ، على أي أساس يفرقون؟ (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 144 )) ، ولكنه اتباع الهوى (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)…
(3) رسائل قصيرة وإنني إذ أنظر اليوم فيما حولي أجد أن الدعوة إلى التزام أوامر الله وأحكامه وتبليغ هذه الأحكام للناس قد انحسرا انحسارا كبيرا ،، وللأحداث الجارية دور في هذا وللآداء السيء المخالف للشريعة في مواطن كثيرة والذي صدر عن أناس ينادون بتطبيق الشريعة دور كبير أيضا في ذلك لا يجحده منصف ، ولكن:
1- إن التزام الشريعة وتطبيقها سيظل مسئولية كل مسلم – لا كل إسلامي – ولن يسقط وجوبها عنه شيء ولا عذر له في التقاعس ولا حجة له في ذلك ، والاحتجاج بفشل الذين تصدروا المشهد إنما هو حجة عليه لا له إذ أن هذا يضاعف الحمل الملقى على كاهله في الدعوة لدينه وتطبيقه ورد الطعنات التي توجه إليه من أعدائه – كفارا ومنافقين – ومن أخطاء من ينتسبون إليه ، فالإسلام دين المسلمين لا التيارات الإسلامية..
2- إن الذي كان يدعو إلى ذلك ثم تقاعس بحجة أن فوجئ بمجتمع غير مهيأ لذلك ، أو أن المجتمع لم يعد مهيأ بسبب الأحداث ، ويرى أن هذه التهيئة تكون بالدعوة والعودة للأمور التعبدية والروحانية البحتة نقول له ما فعلت شيئا ولن تهيأ شيئا ، فإن التزام الدعوة عقودا بالحث على التعبد والنوافل والروحانيات مع إغفال تعليم الناس مفهوم الدين ومفهوم الإسلام وشموليته هو ما أوصلنا إلى ذلك أصلا إذ أنه أخرج أجيالا ذات فهم مبتور وذات انفصامية غير طبيعية واضحة للعيان ، بل أجيالا علمانية عمليا باسم الدين ،، تلتزم بالعبادات والروحانيات ثم لا تجد للدين في حياتها العملية أثر كبير لأنه أرجأت ذلك ولم تتعلمه وتعمل به وها هي الآن تريد أن تكرر الخطأ وترجئه مرة أخرى!
3- إن الذي يستحي الآن من الكلام في هذه الجزئيات بسبب انهزامه النفسي الناتج عن أخطاء الإسلاميين وابتذال رموزهم – للأسف – للشريعة في دعاياتهم لأحزابهم لهو في مصيبة عظيمة ،، فلابد أن يدرك أن الإسلام يعلو ويحكم على أفعال الناس إسلاميين ومسلمين وغير مسلمين ، وأن أفعال المسلمين لن تلحق الإسلام بأي شيء ولا تدفعنا أبدا للاستحياء منه ومن الدعوة إليه والعياذ بالله، بل إنه من عظمته أننا بالدين وبالإسلام استطعنا أن نحكم على أفعال من يدعون لتطبيقه واستطعنا أن نبين مواطن صوابهم وخطئهم ، فالإسلام قوته في ذاته وهو الميزان الذي يزن الناس لا العكس ،، فامض في الطريق ، وارفع رأسك ، أنت مسلم..
المفضلات