الأستاذ مزروع هو الحل
بقلم د. أحمد خالد توفيق


ولَّت أيام المدرسة.. أيام الحواديت وقضم الأظافر... لكن كيف تشكر شخصًا رافقك في رحلتك من أيام الألوان الشمع حتي طلاء الشفاه؟.. ليس هذا سهلاً لكن سأحاول ..لو أردت السماء لكتبت عليها بحروف ارتفاعها ألف قدم: إلي أستاذي مع حبي..

أعرف وأنا أرحل أنني أفارق أفضل صديق لي .. صديق علمني الصواب من الخطأ، وعلمني الضعف من القوة، وهو درس عظيم حقًا .. لو أردت القمر فلسوف أحاول البدء به، لكنني سوف أمنحك قلبي.. وأقول: إلي أستاذي مع حبي ..»
هذا مقطع من كلمات الأغنية المؤثرة: «إلي أستاذي مع حبي» أغنية الفيلم البريطاني الذي عرض في مصر باسم «مدرسة المشاغبين»، وكانت شهيرة جدًا في أواخر الستينات. أتذكر هذه الأغنية بشكل مُلحّ هذه الأيام وأنا أقرأ تصريحات أوائل الثانوية العامة التي صارت تكرر ثلاث نغمات أبدية:
1- الفضل لله ثم للدروس الخصوصية 2
- لم نعد نذهب للمدرسة إلا للعب كرة القدم . أي أن المدرسة تحولت إلي ناد كبير للعب ولا تصلح لشيء آخر
3- الكتب الخارجية هي الأساس والكتاب المدرسي لا قيمة له
«أي أن مبلغ 1,5 مليار جنيه تنفقه الوزارة عليه يضيع هدرًا»! كانت اعترافات المتفوقين في الماضي تركز بشدة علي أهمية المدرسة وتنفي الدروس الخصوصية باعتبارها عارًا، وحتي فترة قريبة جدًا كان من يتعاطي الدروس الخصوصية يخفي ذلك كأننا نتكلم عن تعاطي المخدرات. متي وكيف صار هذا مصدر فخر؟..
أتذكر أيام المدرسة وأشعر بأن الفارق بين مدرسة الماضي ومدرسة الحاضر يلخص كل شيء طرأ علي مصر والمصريين. في ذلك الزمن لم يكن الأستاذ قد تحول إلي مستر ولم تكن الأبله قد تحولت لميس، وبالتأكيد لم تتحول الرياضيات إلي «ماث». كنت في مدارس مجانية، لكني تعلمت علي أيدي أعظم أساتذة علي الإطلاق، ولولا أننا كنا مراهقين قليلي الأدب للثمنا أرجل هؤلاء صباحًا ومساء. أتذكر بالذات الأستاذ «محمد مزروع» أستاذ اللغة العربية والدين الذي علمنا عشق اللغة العربية، وكان يدرك أنه يتعامل مع مراهقين يتحسسون خطواتهم الأولي نحو عالم الرجولة، لهذا لم يكن عمله يقتصر علي التدريس، بل كان يراقب خطواتنا المرتبكة هذه ويسدي لنا النصح .. لماذا كنت في الشارع وحدك الساعة العاشرة مساء أمس يا فلان ؟.. لماذا اشتبكت باللكمات مع محمود يا فلان ؟..
ريفي شديد التدين والكبرياء وواسع الأفق، وبرغم أنه لم يكن يضرب إلا نادرًا فإن هيبته كانت قوية. لا أعرف إن كان الأستاذ مزروع سيقرأ هذه السطور أم لا، لكني سأشعر بالخجل الشديد لو فعل، لأنه قادر علي أن يستخرج مائة خطأ لغوي علي الأقل..
في حصة المحفوظات - وكان في الصف طلاب أقباط بطبيعة الحال - ينهض صاحبي معلقًا علي بيت من الشعر قائلاً: إنه يثبت أن المسيح لم يُصلب كما يزعم المسيحيون. صاح فيه الأستاذ مزروع: «خلاص.. اقعد !». عاد صاحبي يكرر ما قال فانفجر الأستاذ مزروع غاضبًا: «قلت لك اخرس .. يعني خلاص ؟.. الامتحان مش حييجي إلا في الحتة دي ؟.. المواضيع دي يا أولاد يا تُثار إلا في حصة الدين لما نكون وحدنا .. غير كدة تبقي جرح مشاعر». . درس آخر لن ينساه الطلاب. هل كان الرجل علمانيًا أو قليل التدين ؟.. بالطبع كان من أكثر من عرفت تدينًا لكنه التدين السمح الذكي الذي يحترم الآخر ولا يسعي في صلف لكسب حقده ..
القائمة طويلة .. الأستاذ «سعد الخضري» يظهر ليلقنك القواعد الأولي للغة الإنجليزية القواعد التي ستظل معك طيلة حياتك، وستجعل إنجليزيتك ممتازة برغم أنك لم تقرأ أو تكتب حرفًا إنجليزيًا قبل الصف الأول الإعدادي. إنه يتلمظ بشفتيه كلما ركَّب عبارة إنجليزية ليتأكد من أنها «طعمة والا مش طعمة»، وحتي اليوم كلما قلت جملة بالإنجليزية أسأل نفسي: "طعمة والا مش طعمة ؟".. هل كان الرجل العظيم سيقبلها أم يرفضها في اشمئزاز ؟. سأحدثك عن أستاذ «مجدي عبد المسيح» الذي راح يشرح لنا تركيب DNA والحمض النووي والريبوزوم حتي بُحَّ صوته، وعندما صحنا في احتجاج أننا تعبنا صاح في توتر: «لازم تخرجوا من هنا فاهمين الكلام ده.. لو ما فهمتوش دلوقت مش حاتفهموه طول حياتكم !«. تذكرت صيحته هذه وأنا أدرس هذا الكلام بالتفصيل في كتب الطب .. الأمر أكثر تعقيدًا بالطبع لكن الأساس موجود.
وماذا عن أستاذ محمد القاضي الذي علمنا لأول مرة أن هناك علمًا اسمه التجويد ؟.. وماذا عن تثقيفه المستمر لنا في تلك السن الخطرة وكيف حدثنا عن الجماع والاستمناء من الناحية الشرعية ؟. بعض المدرسين عرفوا أن كسب هذه السن الصعبة يحتاج إلي مزيج من الصداقة و الشدة وربما بعض الدعابات الخبيثة يدسونها هنا وهناك، بحيث تكسب المراهقين وتضحكهم دون أن تعتبر ابتذالاً.. ومن قال إن التدريس فن غير شاق ؟
وماذا عن أستاذ «فتحي موسي» ومعادلات الدرجة الأولي وقواعد ضرب الأقواس ؟.. الأستاذ «صالح» مدرس اللغة الإنجليزية. وحرصه الدائم علي أن نكتب ثلاث أو أربع مترادفات لكل كلمة جديدة، وماذا عن أبلة «منيرة العدوي» التي تسلمت تلك الأمانة في البداية ؟.. مجموعة من أحباب الله أقرب إلي قطط صغيرة وليدة لا تعرف شيئًا عن أي شيء ؟.. وكيف جعلتهم يكتبون ويحسبون ويرسمون .. أذكر صوتها المبحوح قليلاً وهي تحكي لنا قصة الإسراء والمعراج وقصة سيدنا إبراهيم. .. لقد نسيت الكثير جدًا مما تعلمته لكن ما لقنته لي باق. .. هذه من اللحظات التي يوشك فيها المعلم أن يكون رسولاً فعلاً، وما زلت حتي اليوم وأنا أدنو من الخمسين ألقي بالسيجارة من يدي لو لمحت أحدهم قادمًا من بعيد.
من قال إنهم لم يكونوا يعطون دروسًا خصوصية ؟.. كانوا يعطون لكن لطلبة المدارس الأخري أو الفصول الأخري الذين لا يدرسون لهم في المدرسة، وكان ذلك بصورة سرية هامسة، لكن عدا ذلك لم تنتقص الدروس شيئًا من الجهد الذي يبذلونه في الفصل. لكن الموضوع أعقد من أن تتهم مدرس اليوم بأنه أقل مستوي من هؤلاء أو أنه أكثر جشعًا .. الحياة نفسها أكثر تعقيدًا. .. المتطلبات أكثر. في الماضي كان ما يحصل عليه المدرس يكفيه، فإذا استزاد كانت الدروس الخصوصية كافية، ثم تأتي الإعارة إلي ليبيا وسواها، وهذه تكفي لشراء قطعة أرض بملاليم يبني عليها بيتًا صغيرًا، وتكفي لزواج البنتين .
إن الحياة تزداد تعقيدًا بطموحاتها والسعار الاستهلاكي الذي أصاب المجتمع، دعك من تغير سيكولوجية الناس ذاتها، بحيث صارت الدروس الخصوصية حاجة اجتماعية ملحة بين التفاخر والخوف من التقصير في حق العيال. يقولون إن سوق الدروس الخصوصية سنويًا تقدر بـ 11مليار جنيه، والبعض يرتفع بالرقم إلي 14مليار جنيه. لكن من الذي يطالب المدرس.اليوم بأن يكتفي براتب الوزارة لتفترسه الحياة افتراسًا؟. من يقنع الأهالي بأن يعطوا المدرسة فرصة ؟.. هناك مدارس قامت بتجارب ممتازة وكونت مجاميع داخلية لكن ثقافة الدروس الخصوصية هزمتها. نحن إذن في دائرة شيطانية: لماذا نحترم المدرسة والمدرسون لا يلتزمون ؟.. لماذا يلتزم المدرسون والطلبة لا يحترمون المدرسة؟. نحن في أغسطس لكن الكل قد حجز مواعيد دروس العام القادم، وصدرت الكتب الخارجية كلها، وكل طالب يعرف أنه لن يذهب للمدرسة بعد شهر .. سوف تتحول المدرسة إلي ملعب كرة قدم كبير لا أكثر. هل تتوقع أن تتم أي عملية تعليمية جادة في ظروف كهذه ومن يقدر علي وقف هذا القطار ؟
المشكلة كبيرة وحلها يحتاج إلي ثورة كالتي قامت بها الولايات المتحدة في الستينيات بعد ما غزا السوفييت الفضاء، وكل خبير تربوي عندنا يعرف التشخيص والعلاج جيدًا، لكنه لا يملك سلطة تنفيذية. أعرف أن هناك مخرجين وحيدين لمشاكل مصر . هذان المخرجان هما الديمقراطية والتعليم. الديمقراطية ليست في أيدينا لأسباب معروفة.. إذن يبقي التعليم .. بمعني آخر: الأستاذ مزروع هو الحل