فاكر يا معالى الوزير..

كانت آخر صورة حلوة لضابط الشرطة واحدة من كاريزمتين: أنور وجدى، بشعره المفزلن وقوامه المشدود وبسالته التى تغلب كل حيل العصابة، وكانت ليلى مراد جائزته المستحقة.. «حبيبى.. عمالة ادور عليك واتاريك قاعد هنا جنبى». أو إسماعيل ياسين، بـ«البرلم» على المدفع والشلاضيم الدولفينى والعينين الناعستين فى بلاهة والهندام «المبعكك» والغباوة بعينها، وكان «الشاويش عطية» قدره الذى يلاحقه: «يا جماعة اللى اسمه مخلة يرد.. الراجل ده شرانى وأنا عارفه».

تخيل يا معالى الوزير أن هذه العذوبة وتلك البهجة، كانتا أيام الملك.. حيث الأبيض أبيض والأسود أسود، والأعور يقال له أعور فى عينه، فما الذى جرى؟.

كنت خارجاً ذات يوم من مقر الجريدة. ركبت سيارتى وهاتفت صديقاً عبر المحمول كان ينتظرنى لأطمئنه أننى فى الطريق. أوقفنى كمين فى آخر شارع المبتديان، أى حوالى مائة وخمسين متراً من مقر الجريدة، ولم أكن قد ربطت الحزام: مخالفتان إذن، ورخصة السيارة منتهية منذ شهرين!. قال ضابط برتبة مقدم: رخصك. قلت: لماذا؟.

قال: حقى. قلت: وحقى أن أسألك لماذا!. قال منتشياً: ألا تعرف أن هناك قانوناً جديداً للمرور!. قلت متحدياً: حصل لنا الرعب.. يا عم قل لى ما مخالفتى وخذ الغرامة واتركنى لحال سبيلى. قال بإصرار: برضه رخصك. قلت: ليست معى، أو هى معى ولن تراها. قال وهو يضرب صاج السيارة: اركن!. ركنت ونزلت وقلت بسمّى ونارى: خذها.. وسأعرف كيف أستردها بعد ساعة.

عندئذٍ أصبحوا ثلاثة ضباط ورهط أمناء وعساكر. قال رائدهم: لن تعرف كيف تستردها. قلت: سنرى. قال نقيبهم بابتسامة ود بعد أن قرأ بيانات الرخصة: ماتشغّلنى فى الصحافة!. قلت: أهلاً بيك. قال الرائد: رخصة العربية منتهية!.. قلت: عارف.. وأريد الوصل. فقال المقدم: سأعتبر نفسى لم أشاهدها..

لكن بعد إذنك حتدفع ٥٠ جنيه غرامة حزام. فابتسمت قائلاً: ما كان من الأول. ثم اعتذرت واعتذروا، وتصادف أن أوقفنى كمين آخر فى شارع جامعة الدول، وثالث فى كورنيش الكيت كات، وتكرر المشهد مع اختلاف الرتبة والمخالفة: الرخصة منتهية.. بس انا ما شفتهاش!.. فأدفع الخمسين جنيهاً بأدب، وأعوم فى فوضى مرورية تحرق الأعصاب.

ستقول إن المواطن المصرى لم يعد يتنفس إلا فى هذه الفوضى، وأنا معك يا سيادة الوزير. إنما لا يمكن إعفاء وزارتك من المسؤولية، إذ تبين لى - وأرجو أن أكون مخطئاً - أن هذه الكمائن، بقوانينها ودفاترها وسواترها وضباطها وأمنائها وجنودها، لم تستطع أن تقضى على هذه الفوضى أو تحجّمها أو حتى تنظمها، ومن ثم أصبح الهدف بدلاً من ذلك «تأمينها»، باعتبارها أحد مصادر «تمويل» الوزارة، والأغرب يا سيادة الوزير أن تقاسم المسؤولية عن هذه الفوضى يوشك أن يكون الاستثناء الوحيد فى علاقة المواطن بضابط الشرطة، وهى مع الأسف خليط من الخوف وعدم الاحترام..

لذا أسألك، وأرجو أن أكون مخطئاً أيضاً: لماذا يتعامل كل منهما مع الآخر كما لو كان «عدواً» إلى أن يثبت العكس؟. ولماذا تصر وزارة الداخلية على ألا تثبت هذا العكس، فى حين لا تدخر جهداً فى إعمال شعار «الشرطة فى خدمة النظام»؟. ألا يوجد فيها «ضابط من أصل مواطن»، يقول لسيادتك إن ثمة «حاجزاً نفسياً» بين الضابط والمواطن، وأن الأمر أصبح يحتاج بحق إلى «تطبيع»؟.

كل ضباط الشرطة أشقاء، وأبناء عمومة وخؤولة، وأصدقاء سينما ومصايف وكرة شراب وقصص حب ساذجة، وزملاء تختة واحدة وسبورة واحدة وسن مسطرة واحد.. لكنهم أصبحوا كائنات مخيفة يا معالى الوزير: يدخل المواطن على ضابط الشرطة فيتحسس الأخير طبنجته، ثم يبسمل بشتيمته، وإهانة أبيه وأمه، ثم يسفلت قفاه لينصب عليه كمينا، ويسلى نفسه بورنشة صدغيه بالأحمر النارى والأزرق الملكى، فيخرج المواطن إلى الشارع وآخر دعواه: «اللهم اكفنا شر ضباطنا، أما أعداؤنا فنحن كفيلون بهم».