علي عبد المنعم – دارفور (السودان) – 26/8/2007




"محمد"، طفل في الحادية عشر من عمره.. لا يعلم لماذا ترك بيته وأوتي به إلى أحد معسكرات النازحين في دارفور، ولا يعلم لماذا صار هو وأقرانه وجوهاً مألوفة في وسائل الإعلام العالمية.

أدخله أبواه إلى إحدى الـ"خلاوي" (مفردها خلوة، وهي دار تحفيظ القرآن) في المعسكر، فأتم حفظ نصف كتاب الله وأسمعنا منه آيات بيانات، لكنه لا يزال يسأل أباه وأمه: "لماذا لا أجد الطعام والمياه والدواء، حين أريدهم".
في "أبو شوك"
إلى معسكر "أبو شوك"، الذي يقيم فيه "محمد"، مع 54 ألف نازح، وصلنا برفقة وفد منظمة الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية (الإفسو)، في طائرة خاصة هبطت بنا في مطار مدينة "الفاشر"، الذي سبقتنا على ممراته طائرات المعونات من كل حدب وصوب.

في الواحدة ظهراً، كانت أولى خطواتنا في شوارع مدينة "الفاشر"، عاصمة إقليم شمال دارفور.

مررنا على مخيمات الدعم الكندي والألماني، ثم لاحت لنا مخيمات العيادات الصحية المصرية من بعيد، ثم رأينا مقر المعونات الكويتية.. وتوالت المخيمات.

وبغرفة ضيقة تطل على "أبو شوك"، الأكبر من بين خمسة في شمال دارفور، جلسنا نستمع إلى إبراهيم الخليل، مدير المعسكر، الذي سرد العديد من الأرقام عن معسكره الذي يضم:
- 15 مدرسة، تضم 14 ألف تلميذاَ.
- 52 خلوة أخرجت 200 حافظ للقرآن، بجانب 53 مسجداً وزاوية.
- 45 وحدة إمداد مياه، تمد كل نازح بـ 8-12 لتر يومياً.
- لا أوبئة تم تسجيلها في الإقليم.

ورداً على سؤال لمراسل (عشرينات)، حول إذا ما كانت هناك أجندة خفية للمنظمات الدولية العاملة في دارفور، حكا إبراهيم الخليل عن أن العديد من تلك المؤسسات أتت إلى المعسكر، وكانت تعطي صناديق الغذاء لكل نازح ومعه إنجيل، فخرج النازحون وقاموا بتمزيق الإنجيل أمام باب المعسكر، ورفضوا استلام الغذاء.

إبراهيم أردف قائلاً: "هؤلاء آتوا إلى هنا؛ لأنهم وجدوا فراغاً فأرادوا ملأه، إذ لم تكن هناك أية مساعدة أو معونة تأتي من أية دولة إسلامية، ولذا نلوم المسلمين قبل أن نلوم المبشرين".

طالبناه بأن ندخل المعسكر لنرى بأعيننا وضع النازحين، فوافق. هناك قابلنا أطفال النازحين، ومنهم "محمد". استمعنا إليه وهو يقرأ القرآن. ربتنا على كتفه مشجعين إياه بعبارات على شاكلة: "ما شاء الله"، "بارك الله فيك". ثم فعلنا مثلما يفعل كل من يأتي إلى هنا.. التقطنا بعض الصور، لكي نريها لأصدقائنا عند العودة، ثم مضينا إلى حال سبيلنا.

تركنا هؤلاء الأطفال الذين لا يعلمون من تفاصيل القضية، إلا وضعهم المأساوي الذي يعيشونه. وبالتأكيد "محمد"، الذي ينام في العراء ويأكل الفتات ويشرب بـ"كوبون" من المنظمات الدولية، لا يعلم أننا سنتركه ونتوجه بعد قليل إلى مقر ولاية إقليم شمال دارفور.. إقليم المتناقضات.. حيث وجدنا الوضع هناك مختلف تماماً.
"ترانزيت" المجاهدين
كانز بيبسي.. كوب نيسكافيه.. شاي ليبتون.. أجهزة تكييف.. مراوح.. نظام صوت مجهز على أعلى مستوى، هذا هو الوضع داخل مقر الولاية على بعد أمتار فقط من مخيمات النازحين التي تفتقد إلى أدنى ضروريات الحياة.

صرفت نظري، وبدأت استمع إلى الوالي "عثمان محمد يوسف" الذي أخذ يحكي، إلى أعضاء الإفسو، عن تاريخ هذا الإقليم، الذي تمتع بالاستقلال إبان الاستعمار الإنجليزي للسودان في القرن العشرين، حيث ظلت مدينة الفاشر – التي أنشئت عام 1774– هي "ترانزيت" المجاهدين الذاهبين للقتال في الشمال والجنوب.

كما أن دارفور، والعهدة على الراوي، شهدت 17 عاماً كانت تصنع فيها كسوة الكعبة المشرفة التي كانت تنقل في "محمل" إلى مكة عبر السويس بمصر، بقيادة السلطان "علي بن محمد دينار"، الذي سمي ميقات الحج "آبار علي" باسمه، تكريماً لجهوده بعد أن حفر هو ورجاله آبار مياه قبل الوصول إلى مكة من أجل الشرب.

وشدد "عثمان يوسف" على أن المآسي والفقر الذي يعيشه المواطن في دارفور هو نفسه الوضع الذي يعاني منه المواطن في أطراف العاصمة الخرطوم، وطالب الجميع بأن يعقد مقارنة بين الخرطوم ودارفور وليس بين دبي أو لندن وبين دارفور، فما يحدث من مؤامرات ضد ذلك الإقليم يرجع إلى أنه يتمتع بأكبر خيرات في عموم السودان.

لا أعلم هل هي مؤامرة بالفعل؟، قد تكون كذلك، فأرقام اليونسيف ومنظمة الغذاء العالمي والأمم المتحدة تشير إلى تحسن كبير في الأوضاع هنا، أما من سيحدثك عن مسألة الإبادة الجماعية فينصحنا الوالي ألا نسمع له أبداً، فهي شبيهة بقضية الهولوكوست؛ فأجندة حكومات الغرب الخفية، ترغب في ترويج شائعات مروعة عن الوضع في دارفور، حتى يتحقق لهم ما تحقق في جنوب السودان، الذي اقترب من تقرير مصيره، ومن ثم الاستقلال عن الدولة.
LCD في دارفور!
انتهينا من اللقاء، وذهبنا إلى دار ضيافة الولاية، وهناك كان الوضع أكثر "تناقضاً"، إذ يمكنك أن تجد قاعة اجتماعات مكيفة، بجانب قاعة أخرى مجهزة بشاشة LCD 29 بوصة، موصولة بطبق يلتقط القمر الصناعي، فضلاً عن أن جوالي رأيته يلتقط إشارات أبراج المحمول المنصوبة بجوار دار الضيافة، أي أن هناك من يستثمر في التكنولوجيا بجوار مخيمات تعاني أشد المعاناة.

أسررت للدكتور أحمد عبد العاطي أمين صندوق "الإفسو"، بأن التناقض صارخ بين الداخل والخارج، فرد قائلاً أن هذه دار للضيافة تستضيف كل المسئولين والوزراء من كل أنحاء العالم، وكذلك أعضاء المنظمات الدولية التي يجب عليك أن توفر لها الراحة حتى لا تتهمك بأنك لا ترغب في وجودها، وكذلك هناك أعضاء تابعين لمنظمات إسلامية وعربية وعالمية أغراضها طيبة، وهؤلاء لن تتركهم يبيتون في المخيمات.

أشرفت الشمس على المغيب، فقررنا الرجوع سريعاً إلى المطار لكي نلحق بطائرة الساعة السادسة المتوجهة إلى الخرطوم، لكن الكابتن أكد استحالة قيام الطائرة؛ لأن الأمطار تهطل بغزارة في العاصمة.. إذن لا مفر من المبيت هنا.. في دارفور.
نمت بغرفة مكيفة!
رجعنا إلى دار الضيافة، وهناك اتخذ د.أبو بكر عبد الفتاح، الأمين العام لـ"الإفسو" قراراً شجاعاً بعقد جلسة اجتماع مجلس شورى الاتحاد الختامية بالدار.. في قلب دارفور، لـ"بعث رسالة مباشرة إلى حكومات الغرب"، مفادها أن الاستقرار هو سمة هذا الإقليم، كما أكد الكويتي "معاذ الدويلة"، رئيس مجلس شورى "الإفسو"، لـ"عشرينات"، وهو أول اجتماع لمنظمة طلابية دولية ممثلة في الأمم المتحدة، وتخضع لقوانينها، يعقد في دارفور.

انتهى الاجتماع، تجولنا في أرجاء الدار، ووجدنا أن الولاية تقوم بتربية حيوانات، مثل الغزال، وكذلك رأينا "قنفذ" محاصر في مساحة من الطمي، فضلاً عن طائري الـ"سينبر" و"هاويس" اللذين يتغذيان على دود الأرض، ويشبهان في شكلهما طائر "أبو قردان" الذي تراه في أرياف مصر.

بعدها أخذونا إلى غرف "مكيفة" لكي ننام فيها، وتركوا لكل فرد، فرشاة ومعجون أسنان، وبالتجول في الغرفة، وجدت ملابس لجنود، وراء أحد الدواليب، إذ يبدو أن أفراد قوات الحكومة الذين يحمون المعسكرات يبيتون هنا أحياناً.

استيقظنا في الصباح. ركبنا الطائرة التي حلقت فوق مخيمات النازحين، وتذكرت "محمد"، الذي لا يعلم أننا نمنا في غرفة مكيفة بعد عشاء دسم، بينما هو في مخيمه يحفظ آيات الله لكي يتلوها على مسامع شيخ الخلوة في الصباح، وعلى مسامع كل من سيأتي إليه من الخارج.

سألت د.أبو بكر عن رأيه فيما شهدناه، فقال: "إنها مأساة ومؤامرة، مأساة لأن هؤلاء يستحقون العيش في بيوتهم في أمان وسلام ورخاء، ومؤامرة لأن هناك في الغرب من يريد خيرات هذه البلاد، وسيبذل في سبيلها أرواح الآلاف، بل الملايين من المسلمين، قتلاً أو جوعاً أو مرضاً، ودورنا أن نكشف هذه المؤامرة أمام العالم، قبل أن تزهق روح واحدة جديدة.. وهذا دورنا جميعاً الذي سنسأل عنه يوم القيامة".

----------------------------------------------------

منقول