النموذج التركى ! ر أيك إيه ...
بقلم د. محمود عمارة ٦/ ٧/ ٢٠٠٩عندما تزور «تركيا».. لأول مرة ستفتح فمك مندهشاً، ومتسائلاً:
كيف استطاع هذا البلد «المسلم» بنسبة ٩٩٪ أن يصبح هكذا قطعة من أوروبا؟
وحين «تجوب» السبع مناطق الجغرافية (منطقة إيجى - البحر الأسود - وسط وشرق الأناضول - مرمرة - البحر المتوسط - وجنوب وغرب الأناضول).. وتعبر الـ٨١ محافظة، فسترفع القبعة لما تشاهده من:
«نظافة» مستفزة ١٠٠٪، جهد حكومى وشعبى ١٠/١٠، «نظام» يجبرك على احترامه.. «حرية» حقيقية تلمسها بلا شرح أو تذويق.. مستوى معيشة يليق بمستوى الإنسان (١٢ ألف دولار للفرد سنوياً).. «تنسيق» حضارى تتمناه لمصر.. و٣٠ مليون سائح يأتون سنوياً للفرجة، والشوبينج.. ولزيارة الأماكن التى شاهدوها فى المسلسلات التركية التى غزت العالم العربى فجأة (مسلسل نور - لحظة وداع - سنوات الضياع - إكليل الورد - وتمضى الأيام - وقصة شتاء..»!
«تركيا».. التى لا تصل مساحتها إلى ٣/٤ مساحة المحروسة.. وعدد سكانها يساوى تقريباً عددنا ٧٨ مليون نسمة، ينتجون أكثر من ضعف إنتاجنا (تريليون دولار سنوياً.. ونحن ٤٤٠ ملياراً).. ولهذا تجد ميزانيتهم السنوية ١٧٠ مليار دولار - ونحن ٤٠ ملياراً فقط لا غير!
ولنفهم «السر».. وراء هذا التقدم، وهذا التحضر الذى يرشحها عضواً فى الاتحاد الأوروبى رغم معارضة فرنسا وألمانيا.. علينا بقراءة القصة من بدايتها:
«والبداية».. حدثت على يد الشاب الثائر: «مصطفى كمال».. الذى سموه «أتاتورك» أى «أبو الأتراك».
هذا الزعيم الوطنى الذى حكم البلاد من ١٩٢٣ حتى وفاته ١٩٣٨ أى لمدة ١٥ سنة فقط.. استطاع خلالها أن «يغير»، «ويبدل» حاضر ومستقبل وطنه ويجعل الأتراك مدينين له طوال تاريخهم!
مصطفى كمال «أتاتورك».. الذى تخرج فى الكلية العسكرية فى «إسطنبول» عام ١٩٠٥ لينشئ خلية سرية لمحاربة استبداد «السلطان».. بعد أن حصل على الشهرة بسبب بطولاته العسكرية كضابط أركان حرب.. ليصبح «الكولونيل» مصطفى كمال بطلاً قومياً بتحقيقه عدة انتصارات متتالية فى حرب «الدردنيل» وعمره ٣٥ سنة.. وبعد أن «حرر» عدة مقاطعات تمت ترقيته إلى «جنرال عام» وقائد للجيش ليبرز نجمه فى سماء تركيا، ويدخل حرب الاستقلال مؤسساً قاعدة الجهاد الوطنى ضد الحكم العثمانى، وينتخبه الناس رئيساً لمجلس الأمة.. ثم رئيساً للأركان.. ويعلن استقلال تركيا لينتخبه الشعب بالإجماع كأول رئيس للجمهورية بعد انهيار الحكم العثمانى.
وفى أول خطاب له قال:
«.. بعد أن «تغلغل الشيوخ» فى تفاصيل حياتنا اليومية.. وبعد أن انتشرت الخرافات، «وعمت» الخزعبلات.. «وتغيب» العقل التركى عن الاجتهاد والإبداع.. وبعد أن غرقنا فى بحر «الفتاوى».. وتاه الناس فى دروب الجهل والتخلف، ومن أجل بناء نهضة حقيقة.. وتأسيس دولة عصرية فقد قررنا:
«أن تصبح تركيا دولة «علمانية».. تفصل بين الدين والدولة».. وهذا يستلزم:
(١) تحويل المدارس الدينية إلى مدارس مدنية.
(٢) إلغاء وزارة الأوقاف.. وغلق المحاكم الشرعية.
(٣) استخدام الأبجدية اللاتينية بدلاً من الأبجدية التركية فى الكتابة.
(٤) إنشاء دستور مدنى.. مع إدخال قانون العقوبات، والقانون التجارى والمدنى.
(٥) إلغاء الخلافة الإسلامية.. ومنع ارتداء الجلباب والطربوش، والخمار.. وأن تكون «العمامة» لرجال الدين فقط.
(٦) استبدال التقويم الهجرى بالتقويم الغربى.
(٧) «تمكين» المرأة فى المجتمع.. بأن يكون لها وضع قانونى مساو للرجل فى حق العمل والترشيح والتصويت والمشاركة.
ولثقة الشعب المفرطة فى الزعيم «مصطفى كمال»، فقد تجاوبوا بشكل ملحوظ.. ولم يجد المعارضون بداً من الانصياع للنظام الجديد بعد أن تم التنكيل ببعض المناوئين والمستفيدين من خلط الدين بالسياسة.. والمتاجرين بعقول البسطاء، والمتربحين من حالة الجهل والفقر والتخلف التى كانت سائدة فى ذلك الوقت!
وخلال ١٥ سنة.. انتقلت تركيا من حياة القرون الوسطى إلى «الحداثة» والتحضر.. وبعد مرور أكثر من ٨٠ سنة على تجربة النظام العلمانى الذى احترم الدين الإسلامى بإبعاده عن المهاترات السياسية.. فمازال الأتراك يتمسكون بدينهم، ويؤمنون بأن «العلمانية» هى الطريق السليم والصحيح رغم محاولات بعض الأحزاب أحياناً العودة بالمجتمع إلى الوراء!!
«تركيا».. ليست الدولة الإسلامية الوحيدة التى اتخذت من «العلمانية» أساساً للنهضة والتحديث.. فهناك «ماليزيا» أيضاً والتى انطلقت على يد «مهاتير محمد» والذى أعلن فى أول يوم من توليه السلطة بأنه «مسلم علمانى» فجعل من بلاده «نمراً» أسيوياً، ونموذجاً يحتذى به!!
والسؤال الآن:
هل «العلمانية» بمعنى فصل الدين عن السياسة.. هى الحل والمخرج مما نحن فيه الآن من وضع مطابق لما كانت عليه «ماليزيا» قبل مهاتير محمد.. و«تركيا» قبل «أتاتورك»؟
ومن أين نأتى بمثل هذا «الأب الروحى» الذى يمكن أن يثق فيه المصريون؟
المصري اليوم