يعتقد كل منا بأنه بمجرد أن يؤدب سائق تاكسي أو سائق ميكروباص قليل الأدب، سواء معنوياَ أو جسدياَ، بأنه قام بعمل بطولي لأنه قد لقنه درس سيمنعه من تكرار الغلطة بشكل نهائي .. و لكن الواقع أن الأثر النفسي لمثل هذه الواقعة هو مجرد نقاط من البنزين التي تشعل نار "دائرة القهر" في الشارع المصري .. فهناك دائرة من القهر و الظلم يمارسها سكان القاهرة علي بعضهم البعض بدون وعي في المكان الوحيد الذي يلتقون فيه و يتعاملون مع بعضهم البعض دون سابق معرفة .. الشارع .. خلف عجلة القيادة .. كل شخص فيهم يمارس القهر علي شخص بسبب شخص أخر قد مارس هذا القهر عليه سابقاَ ! فمجرد أن يكسر عليك شخص و يعدي بالبلطجة و مفيش حاجة تجبلك حقك .. ده نوع من أنواع القهر !

مثلاَ .. إنت متعود أن سائقي الميكروباص في منتهي الإهمال .. و لديك في سيارتك العديد من العاهات المستديمة بسببهم .. لذلك فأنت علي موقف دفاعي عدائي دائماَ منهم .. و إذا حدث موقف بينكم .. ففرصة تطوره أكبر من فرصة تطور الموقف مع أي فئة أخري من السائقين .. فأنت مشحون لدرجة إنك بتتلكك لأي سواق ميكروباص .. و تعتبر أن سائقي الميكروباص كلهم "عائلة" واحدة و متفقين عليك في مؤامرة كبيرة .

الوضع فوضوي .. نعم .. لا يوجد قانون لحكمه .. بالتأكيد .. و لكننا عندما نتصرف بطريقة "حقك بدراعك" و ننظر لها النظرة البطولية .. فإننا نغفل العديد من الحلقات في السلسلة .. فماذا من الممكن أن يحدث لسائق قد تعرض للتأديب علي يد سائق أخر ؟ فبالرغم من إن الغلط ممكن يكون راكبه من ساسه لراسه .. إلا إنه سيشعر بالقهر و سيبحث عن طريقة للتنفيس .. ماهي بعض السيناريوهات المحتملة ؟

1- أن يرجع هذا السائق لبيته مهموماَ مش طايق نفسه، فيجد أمامه أولاده فيوسعهم ضرباَ، و من الممكن أيضاَ أن يضرب زوجته .
2- أن يقبل دعوة علي بعض المخدرات حتي "ينسي و يروق" .. و يقود مركبته بعدها و يصدم أحدهم و يقتله .. أو يموت هو .
3- أبسط السيناريوهات .. أن يقود بغضب فيصدم أحدهم و يقتله .. أو يتسبب في حادث يودي بحياته .. أو يصدم سيارة و يحدث بها ضرر بالغ فتحدث مشاجرة يكون نتيجتها موت أو عاهة أحد الأطراف !

و تخيل كل ده بدأ بإيه ؟ بيك ! بسبب كلمة .. شتيمة .. قلم لطشتهوله .. أي حاجة زودت القهر اللي حاسس بيه الناس .. شئ مرعب مش كدة ؟ مين كان يتخيل إن الشتيمة اللي شتمها لسواق التاكسي أو الخناقة اللي هراه ضرب فيها متخيل إنه كدة بيمنعه من تكرار الغلطة .. إنها ممكن تنتهي بأطفال نايمة معيطة و حاسة بقهر -هتمارسه علي حد في يوم من الأيام- أو زوجة مطلقة أو شخص ميت ! و مش لازم سواق ميكروباص! ممكن سائق ملاكي عادي تكسر عليه .. فيشعر بالقهر و يكمل باقي الطريق سواقة عنيفة لإحساسه بالغصب و يعمل حادثة يموت فيها .

طب ماذا عن أثر الموضوع عليك إنت ؟

1- هيتولد لديك إحساس دائم بإنك بمجرد ما تفتح باب السيارة و تدورها إنك داخل علي خناقة .
2- هتنتظر حد يغلط حتي تبدأ في الدفاع عن نفسك و القيادة بنفس أسلوب "الرخامة" تأديباَ لباقي الناس اللي في الشارع !
3- مزاجك هيبقي سئ و إحتمال القيادة تسبب لك إكتئاب .
4- هتبوظ علي نفسك لحظات حلوة كتير بسبب عصبيتك بعد السواقة .

لو بتسوق ساعتين بس كل يوم يبقي بتسوق 60 ساعة في الشهر و 730 ساعة في السنة .. يعني بتسوق في السنة .. 30 يوم .. شهر كامل بدون إنقطاع ! و السنة فيها 12 شهر .. تخيل إنك مضيع من ال 12 شهر اللي في السنة وقت شهر كامل بدون نوم ولا إنقطاع .. في حرقة الدم ! و لو بقالك 12 سنة بتسوق فا إنت قعدت وقت سنة كاملة دمك محروق ! هل الموضوع مستاهل؟ و هل عندنا وقت كفاية عشان نضيع شهر في حرقة الدم ؟ و هل دي الحياة اللي بنتمناها لنفسنا قبل غيرنا ؟ و مش أكيد الشهر ده ممكن تستغله في حاجة أحسن ؟

و أثر الموضوع ده علي صحتك .. تخيل قعدوك في مكان لمدة شهر بدون نوم و إنت في حالة غضب و إحباط طول الشهر .. أكيد مش هتكمل الشهر و هتنهار في الوسط .. أو علي الأقل يجيلك مرض مزمن .. أهو إنت بتاخد نفس الجرعة لمدة ساعتين يومياَ علي مدار السنة .

فيه في مجتمعنا ناس كتير مختلفة عننا و تفكيرها غير تفكيرنا و ظروفها غير ظروفنا .. و لو تخيلنا إننا نقدر نغير ده يبقي مستحيل .. لكن اللي نقدر نغيره .. نظرتنا للأمر .. فإذا إستطعنا تغييرها لتخدمنا في النهاية .. فسيكون أفضل من أن نقوم بعمل نظنه بطولي و لكنه من الممكن أن يكون له عواقب لا نراها علي الإطلاق .. فيه مقولة بتقول إنك إذا عملت نفس الحاجة بنفس الطريقة هتطلعلك نفس النتيجة .. من الممكن أن تنطبق علي السواقة .. لو فضلت تبص للشارع علي إنه مؤامرة و سكة لحرق الدم و العكننة هتكون النتيجة الطبيعية .. إن يتحرق دمك!

إذا حاولت أن تغير نظرتك .. و لو جزئياَ .. قد تكون السبب في أن بعض الأطفال لن يناموا دامعي العينيين اليوم .. أو أن شخص سيفقد حياته أو القدرة علي تحريك أحد أعضاؤه أو علي الأقل .. كرامته! و في نفس الوقت .. ستحظي بذلك الشعور بأنك خارج الدائرة .. خارج دائرة القهر و لست ممن يغذوها بإستمرار .

شغل في العربية مزيكا بتحبها و روق و إنزل بدري و سوق براحتك .. انا مش في الدائرة .