رأي الإمام الحافظ بن حجر عن التنطع في كتاب (فتح الباري شرح صحيح البخاري):
واخرج ابو داود في المراسيل من رواية يحيى بن ابي كثير عن ابي سلمة مرفوعا، ومن طريق طاوس عن معاذ رفعه " لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فانكم ان تفعلوا لم يزل في المسلمين من اذا قال سدد او وفق، وان عجلتم تشتت بكم السبل " وهما مرسلان يقوي بعض بعضا، ومن وجه ثالث عن اشياخ الزبير بن سعيد مرفوعا " لا يزال في امتي من اذا سئل سدد وارشد حتى يتساءلوا عما لم ينزل " الحديث نحوه قال بعض الائمة والتحقيق في ذلك ان البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين،
احدهما ان يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب لا مكروه بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين،
ثانيهما: ان يدقق النظر في وجوه الفروق فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له اثر في الشرع مع وجود وصف الجمع او بالعكس بان يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه " هلك المتنطعون " اخرجه مسلم
فرأوا ان فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته،
ومثله الاكثار من التفريع على مسالة لا اصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الاجماع وهي نادرة الوقوع جدا، فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها اولى ولا سيما ان لزم من ذلك اغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه، واشد من ذلك في كثرة السؤال، البحث عن امور مغيبة ورد الشرع بالايمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس، كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الامة، الى امثال ذلك مما لا يعرف الا بالنقل الصرف
والكثير منه لم يثبت فيه شيء فيجب الايمان به من غير بحث، واشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، وسياتي مثال ذلك في حديث ابي هريرة رفعه " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله " وهو ثامن احاديث هذا الباب.
وقال بعض الشراح: مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول الى الجواب بالمنع، بعد ان يفتى بالاذن ان يسال عن السلع التي توجد في الاسواق، هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها اليه او لا؟ فيجيبه بالجواز فان عاد فقال اخشى ان يكون من نهب او غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة فيحتاج ان يجيبه بالمنع، ويقيد ذلك ان ثبت شيء من ذلك حرم، وان تردد كره او كان خلاف الاولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز، واذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الاحكام التي يكثر وقوعها فانه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ولا سيما فيما يقل وقوعه او يندر، ولا سيما ان كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة، فانه يذم فعله وهو عين الذي كرهه السلف ومن امعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن اصحابه الذين شاهدوا التنزيل وحصل من الاحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك مقتصرا على ما يصلح للحجة منها فانه الذي يحمد وينتفع به، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الامصار من التابعين فمن بعدهم حتى حدثت الطائفة الثانية فعارضتها الطائفة الاولى، فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء وتسموا خصوما وهم من اهل دين واحد، والواسط هو المعتدل من كل شيء، والى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي " فانما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على انبيائهم " فان الاختلاف يجر الى عدم الانقياد وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم، واما العمل بما ورد في الكتاب والسنة والتشاغل به فقد وقع الكلام في ايهما اولى، والانصاف ان يقال كلما زاد على ما هو في حق المكلف فرض عين فالناس فيه على قسمين من وجد في نفسه قوة على الفهم والتحرير فتشاغله بذلك اولى من اعراضه عنه وتشاغله بالعبادة لما فيه من النفع المتعدي، ومن وجد في نفسه قصورا فاقباله على العبادة اولى لعسر اجتماع الامرين، فان الاول لو ترك العلم لاوشك ان يضيع بعض الاحكام باعراضه، والثاني لو اقبل على العلم وترك العبادة فاته الامران لعدم حصول الاول له واعراضه به عن الثاني والله الموفق
المفضلات