بثت قناة «الجزيرة» الفضائية، في حصاد يوم الأحد الماضي، مقتطفات من تصريح السفير سليمان عواد، المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، حول أحداث غزة، وأكد الرجل مواقف مصر الثابتة والبديهية، من ضرورة فرض سيادتها علي حدودها، وأنها لن تقبل أن تستباح سيادتها الوطنية بأي صورة، وهو أمر طيب ومحمود، نال توافقا عاما من معظم مكونات النخبة السياسية المصرية، حتي لو كان البديل هو السماح بدخول الفلسطينيين إلي مصر دون قيود أو تأشيرات، ولكن من المهم أن تكون هناك قواعد تحكم عملية الدخول والخروج، ولا تترك للفوضي والعشوائية.



ولكن الغريب الذي جاء في تصريحات المتحدث الرسمي هو هذا التكرار الممل لتلك الجملة: «إنه لا يوجد شعب ضحي من أجل القضية الفلسطينية مثلما فعل الشعب المصري»، وتكرار خطاب المن الرديء الذي كرره علي مسامعنا كثير من «كتاب» الحكومة، حين تحدثوا عن دور مصر وتضحياتها، استنادا لتوجهات نظام مصري آخر ناصبوه العداء.

ولأن الحكم في مصر اختار منذ اتفاقية كامب ديفيد بديلاً عملياً قائماً علي التسوية السلمية مع إسرائيل من أجل «الرخاء»، واعتبر «أن حروبنا كانت من أجل فلسطين»، وهو أمر غير صحيح، لأنها كانت للدفاع عن النفس، وإلا فبم نفسر أسباب حشر إسرائيل نفسها في العدوان الثلاثي علي مصر عام ١٩٥٦، رغم أن القضية بالكامل كانت وطنية وداخلية، متعلقة بتأميم قناة السويس!

والمدهش أن هذا الخطاب، الذي يتحدث عن «أفضال مصر» علي القضية الفلسطينية، يأتي بعد ثلاثين عاما علي مبادرة السلام، وبعد أن توقفت مصر عن محاربة إسرائيل منذ ٣٥ عاما، واعتبرت أن السلام مع إسرائيل سيجلب الرخاء والتنمية والديمقراطية «كما نشاهد الآن».

وإذا تجاوزنا خطاب المن والتضحية من أجل القضية الفلسطينية الذي تردده الحكومات في مصر وسوريا والأردن، أي دول المواجهة (سابقا)، والمجاورة (حاليا) لإسرائيل، سنجد أن ما يحدث في فلسطين، وتحديدا ما جري مؤخرا في غزة بسبب السياسات العدوانية الإسرائيلية، فرض وضعا مأساويا داخل القطاع، امتدت آثاره إلي مصر، التي اضطرت إلي التعامل معه.

فلا يوجد إذن مكان أو مبرر لهذا الخطاب، الذي يكرر بعد ٣٥ عاماً من آخر حروبنا مع إسرائيل، حديثا عن تضحيات مصر وعطائها للقضية الفلسطينية، رغم أن المطروح ليس عطاء ولا كلاماً عاطفياً إنما الاعتماد علي الوزن السياسي والإقليمي لمصر (في حال أنجزت الحكومة ما قالت إنه سبب السلام مع إسرائيل أي تنمية اقتصادية ونهضة سياسية)، في الضغط علي إسرائيل لوقف عدوانها علي الشعب الفلسطيني، وفي تقنين وضع الحدود بوضع الأعداد الكافية من الجنود والعتاد رغم المحاذير الإسرائيلية.

ولأن هذا لم يحدث فاخترنا «الصيد السهل»، وهو الشعب الفلسطيني، وطالب أحد نواب مجلس الشوري بوضع ألغام علي الحدود مع غزة بصورة أسوأ من الجدار العازل الإسرائيلي.

رغم أن السبب وراء ما جري تتحمله سياسات الاحتلال الإسرائيلي العدوانية بحق الشعب الفلسطيني، وتتحمله أيضاً الفصائل الفلسطينية، وتحديدا حركة فتح، المسؤولة عن جانب كبير من أخطاء السلطة في قطاع غزة، ثم حركة حماس المسؤولة عن الفشل الذي أصاب الحياة في قطاع غزة بعد سيطرتها عليه.

ومن هنا فإن الدور المصري المنتظر يجب أن يكون في ممارسة الضغوط علي الجانب الإسرائيلي، المحتل لأرض الغير، والمسؤول الأول عما أصاب الشعب الفلسطيني من بؤس ومعاناة، ومحاولة التوفيق بين الفصائل الفلسطينية، وتحديدا حركتي فتح وحماس، وفي حال الفشل كما هو واضح ، يجب أن نعمل علي ضبط الحدود وتنظيم دخول الفلسطينيين إلي مصر لا منعهم.

من المؤكد أن القضية الفلسطينية ظلت أسيرة حسابات كثيرة للنظم العربية، تجاوزت الطريقة المصرية السلبية في التعامل معها، فهناك أيضا خبرة أسوأ، متمثلة فيما عرف بالنظم التقدمية، التي ادعت ـ منذ أن وقع الرئيس السادات علي معاهدة سلام مع إسرائيل ـ أنها «تدعم» القضية الفلسطينية، ولكنها في الواقع اهتمت بحروبها الصغيرة ضد الفلسطينيين وضد باقي الدول العربية الأخري، وكانت التجربة البعثية في كل من العراق وسوريا نموذجا صارخا لدعم القضية الفلسطينية بـ «الشعارات».

أما الشارع فبدا دائما داعما للقضية الفلسطينية ومتعاطفا ولو من بعيد مع مأساة الشعب الفلسطيني، ولكن حين يبدأ التفاعل اليومي بين الشعوب العربية والشعب الفلسطيني تخرج الحسابات الضيقة، ويتضح حجم الأنانية الشديدة في النظر إلي هذا القادم الغريب، حتي لو كان عربيا، فنجد في كل بلد عربي أزمة ما بين البلد المضيف والفلسطينيين، وأخري تجاه العراقيين أو المصريين، رغم الشعارات القومية التي تردد كل يوم في وسائل الإعلام.

ووجدنا في مصر حرصاً شديداً من قبل الحكومة أن «تلبس» الفلسطينيين أي مصيبة كحمل متفجرات أو تزوير عملة، وشاهد الناس تجاوزات قلة نادرة من الفلسطينيين علي الحدود، وبدا الرأي العام منقسماً بين أغلبية لاتزال متعاطفة في أقوالها وسلوكها (أي مستعدة أن تقدم عمليا، وليس بالخطب، الدعم المادي والمعنوي للشعب الفلسطيني دون مَنّ أو إهانة) وأقلية يعتد بها وقابلة للزيادة غير مستعدة أن تدفع أي ثمن لدعم الفلسطينيين، ولو بابتسامة في وجه أطفالهم أو تفهم لمحنتهم قبل صب جام غضبهم علي الجميع.

من المؤكد أن الشارع العربي يمكن أن يصبح أكبر نصير للشعب الفلسطيني، في حال إذا أخرجت القضية من دائرة المؤتمرات السياسية إلي الشارع الواسع، وعلّمته أن الداعم الحقيقي للقضية الفلسطينية هو المستعد أن يدفع ثمناً ما، ولو بتقديم الدعم والعون لكل من يدخل بلادنا بشكل شرعي، فكثير من المدافعين عن القضية الفلسطينية في وسائل الإعلام ليسوا مستعدين أن يقدموا أي تضحية، ولو بسيطة لصالح هذا الشعب.

إن الدور الحقيقي للشعوب العربية في دعم الفلسطينيين، سيبدأ حين يعرفون أن لهذا الشعب حاجات إنسانية وسياسية، وأن دعمه سيبدأ بتغير سلوك العرب والمصريين تجاههم، وتجاه بعضهم البعض، والخروج من ثقافة التعميم الرديئة، التي كنا نحن المصريين أول ضحاياها.

وعلي البعض الذين استفزتهم، عن صدق وحسن نية، مشاهد رشق الجنود المصريين بالحجارة علي يد قله من أبناء غزة، ألا ينسوا أن هناك أكثر من نصف مليون مواطن فلسطيني دخلوا بلادنا دون رقيب، واشتروا بضائع وتعاملوا مع الناس بسلام، ولم تسجل أي حادثة عنف تذكر من جانب هذه الأعداد الهائلة، وعلينا أن نتذكر كيف يكون سلوك المجاميع الكبيرة في مباريات الكرة، ولا نقول المظاهرات، في مصر وكثير من دول العالم، وكيف تصرف المواطنون في أمريكا حين قطع التيار الكهربائي عن إحدي المدن الكبري، أو كيف يتصرف الناس حين تغيب الدولة ورجالها هناك، وكيف تصرف الفلسطينيون هنا، حتي نعرف كيف أنهم مثلوا سلوكا نادرا من الاحترام والرقي، رغم المحن وبعض الهنات لقلة نادرة