في برامج المسابقات التليفزيونية التي ذاعت في التسعينيات من القرن الماضي وما قبلها ، كان المذيع يسأل سؤالاً في أي مجال ليسارع أحد الجمهور طامعاً في الجائزة قائلاً : بسم الله الرحمن الرحيم .. الإجابة تونس ...
وتحولت هذه الإجابة إلى أيقونة في عرف أصحاب الظل الخفيف من المصريين فلا يكاد أن يطرح سؤال حتى يقوم أحدهم مسرعاً بخفة دم .. الإجابة تونس ..

اليوم ومع الأحداث الجسيمة والتطورات المتلاحقة التي تشهدها تونس ينعكس الوضع فتستدعي هذه الإجابة التلقائية البسيطة خفيفة الدم سؤالاً بدلاً من أن يثير السؤال الأجوبة ، فصار حقيق بنا اليوم أن نسأل هل فعلاً الإجابة تونس ..

ففي غمرة الافتتان بما تحقق في تونس بالأمس كنتيجة لشهر كامل من النضال والمظاهرات والاحتجاجات ، سارع الكثيرون إلى تأكيد أن الإجابة تونس .. وأن التغيير لابد أن يتم على غرار ما فعله التوانسة ..

لقد أستدعت التجربة التونسية أسئلة وقدمت أجوبة ، فدعونا نخرج من حالة الافتتان والنشوة ، إلى حالة الفهم والقلق ..
ودعونا نبدأ بلأسئلة وبالأجوبة ..

السؤال الأول هو مزمن في العقلية والوجدان العربي منذ عشرات السنين .. هل لا زال الشعب العربي ينبض بالحياة ، وهل في مقدور الشعوب أن تنتفض رافضة للظلم والقهر والاستعباد ؟؟

الإجابة : نعم

أثبت الشعب التونسي أن الشعب العربي لا زال ينبض بحياة ، هي في نظري في أنفاسها الأخيرة ، ولعل هذه الانتفاضة هي انتفاضة من يقاوم الموت ، فهي انتفاضة نبعت من جسد مريض عانى من القهر والاستعباد سنوات طوال ، عانى من القفز على مقدساته ، وانتهاك مقدراته ، وسلب أحلامه ، ظلت تونس تنتعش وتنهض مظهرياً ، صارت جنة في ساحلها السياحي ، ومدينة حضارية جميلة في عاصمتها القديمة ، ولكنها جنة تشبه السجون ، جنة لا يمتلك الشعب فيها إلا ما يقذفه ساكنو أبراجها العاجية من فتات ..

والآن يأتي السؤال : هل بانتفاضة واحدة تبعث الحياة إلى هذا الجسد المريض ، وهل لهذا الجسد المريض فرصة أن يقاوم ويقاوم من أجل أن يفرض إرادته بحق ، وهل باستطاعته أن يقف منتفضاً أمام من سيحاولون أن يسلبوه حريته وإنجازه ، ليجد نفسه ينتقل من حكم ديكتاتور إلى حكم ديكتاتور آخر ؟؟؟

السؤال الثاني : هل مضى عصر الثورات الشعبية ؟

الإجابة : لا

الكثيرون يعولون على أن عهد الثورات في العالم العربي بل في العالم كله قد ولى وانتهى ، فالعالم العربي لم يشهد ثورات شعبية إلا في ظل الاستعمار ، والسعي وراء الاستقلال ، ولم تتغير الأنظمة بعد ذلك إلا بانقلابات عسكرية في ظل صراع أفراد على الحكم بين من يملك القوة ، ومن لديه الإرادة لفرض قوته العسكرية على الآخر ، فنتج عن هذا انقلابات تراوحت بين الفشل والنجاح .. ولكن حلم الثورة الشعبية توارى منذ عهد ثورة 1919 ، وثورة الجزائر ، وحين قامت الثورة الإيرانية كانت هي آخر الثورات الشعبية في الشرق الأوسط .. الآن نحن أمام ثورة جديدة في القرن الحادي والعشرين ، هي أولى ثوراته العربية الشعبية ..

والآن يأتي السؤال : هل لثورة شعبية خرجت دون هدف واضح ، ودون تنظيم ، ودون مرجعية سياسية تدافع عن مكتسباتها مستقبل ؟ وهل يمكن أن يحافظ الشعب التونسي على زخم ثورته الشعبية لتحقيق الديمقراطية والعيش الكريم ؟ أم أن هذه الثورة بتلك الظروف تكون عرضة للسلب والنهب والانتهاك ؟؟

السؤال الثالث :

هل انحسار السياسة في مقابل الاقتصاد الذي صار الأهم في حقبة القطبية الواحدة كفيل بوأد فكرة الثورة لصالح السعي وراء لقمة العيش ؟

الإجابة : لا

حيث ارتكنت الأنظمة في العالم العربي إلى أن وضع المواطن دائماً في حالة لهاث وسعي دائم وراء لقمة العيش كفيل بأن ينسيه حقوقه السياسية ، وأن يكبت أي نازع من نوازع الثورة في نفسه ، فكيف وهو مكبل بهذه الأغلال الاقتصادية والالتزامات الشهرية واليومية ، والغلاء الفاحش المستمر للأسعار ، ولهيب البطالة التي تقتل سنوات العمر لحظة بعد لحظة .. أن يفكر في أمور تتعلق بقضايا نخبوية كالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والحرب على الفساد .. ولقد أوضحت ثورة تونس أن هذه الظروف قد تكون الشرارة التي تولد الانفجار ، وحين يأتي الانفجار لا تتوقف المطالبات عند حدود خفض الأسعار ورفع المرتبات ، بل إن من يثور .. يثور لأجل كل شيء لأجل الكرامة والحرية والديمقراطية والأمل ..

والآن يأتي السؤال : هل من الممكن أن يفطن الساسة والأنظمة العربية إلى بدهية أن من يفقد الأمل في حياة أفضل هو من يثور ، وأن فقدان الأمل والشعور الدائم بالانهزام والقهر كفيل بأن يولد شرارات الثورة داخل الشعوب . أم أن هؤلاء الساسة لا يزالون يعولون على أن الشعوب العاجزة المنهكة في الكفاح عن إيجاد قوت يومها أصبحوا كالأنعام ليس بيدهم أي شيئ ؟

السؤال الرابع :

هل للإعلام الجديد القدرة على إحداث التغيير ؟؟ وهل شباب الفيس بوك وتويتر ، هؤلاء الشباب الذين يوصفون دائماً بأنهم لا يمثلون عناصر مؤثرة في الشعوب العربية ؟ وأن جل نشاطاتهم لا قيمة لها ، وأن التعويل على قدرتهم على تحريك الجماهير محض خيال .. هل هؤلاء الشباب لديهم من الحس الوطني ، والرغبة في التغيير ، والقدرة على مباشرة هذا التغيير وتغذيته دائماً ما يمكنهم معه إحداث الفارق بحق ؟

الإجابة : نعم

فهذه الثورة هي ثورة الشباب ، هي أول ثورة إلكترونية في العالم يقوم على دعمها ورعايتها وتنسيق جهودها هؤلاء الشباب الذين نصمهم كل يوم بالتفاهة والسطحية ، هذه ثورة لم تقم على الخطب والشعارات ، بل قامت على الجروبات والمنتديات والتتويتات والاستاتيوهات ، هذه ببساطة أول ثورة تقوم على أكتاف النت وشبكاتها الاجتماعية .

وهنا يأتي السؤال : هل آن لنا الآن .. أن ندرك عمق تأثير هذه الشبكات ، وهل آن لنا الآن أن نرد الاعتبار لشباب الفيس بوك والتويتر ، وهل آن الأوان لندرك أن ثقافة هذا الجيل هي ثقافة عالمية تقوم على التنوع والتعدد والديمقراطية ، تشرب بها هذا الجيل ومارسها ، حتى ضاق ذرعاً بكل الممارسات الديكتاتورية والتعسفية فخرج يقاومها على الشبكة وعلى الأرض .


وماذا بعد ..

على مستوى تونس .. آمل ألا تسلم هذه الثورة قيادها لحفنة جديدة من المنتفعين ولصوص الأوطان ..

وعلى مستوى العالم العربي .. آمل أن تدرك الأنظمة العربية أن تحقيق مطالب الشعوب ورغبتها في الحرية والديمقراطية أمر حتمي ، وهو إما أن يتم بالطريقة السهلة وهي الحوار والتعددية والديمقراطية ، أو بالطريق الأصعب وهو الاحتجاج والثورة والدماء وانعدام الأمن .. ولكل نظام أن يختار طريقه ..

وعلى مستوى العالم .. فلم يعد بالإمكان الآن مناصرة الطغاة ، فأمريكا تشيد بقدرة شعب تونس على إزاحة الطغاة ، وفرنسا تتخلى عن حليفها السابق وتطرده من أجوائها .. والعالم كله يرفع القبعات لشعب تونس الأبي الثائر ، ولم يعد بإمكان أي وسيلة إعلامية أن تزيف الحقائق مهما كانت ..

وعلى مستوى الإنترنت .. أتمنى ألا تحارب هذه التجربة الثورية التونسية بمزيد من التضييقات المتخلفة على الإنترنت وشبكاتها الاجتماعية وخدماتها المتنوعة ، وليعلم الجميع أن للحقيقة ألف باب يمكن أن تدلف منه لتصل إلى من يبتغيها وينشدها ..

تقبلوا جميعاً خالص مودتي
وعذراً على الإطالة