من أراد اجتماع همه وإصلاح قلبه، فليحذر من مخالطة الناس في هذا الزمان،
فإنه قد كان يقع الاجتماع على ما ينفع ذكره، فصار الاجتماع على ما يضر.
وقد جربت على نفسي مراراً أن أحصرها في بيت العزلة، فتجتمع هي ويضاف إلى ذلك
النظر في سير السلف فأرى العزلة حمية والنظر في سير القوم دواء واستعمال
الدواء مع الحمية عن التخليط نافع.
فإذا فسحت لنفسي في مجالسة الناس ولقائهم تشتت القلب المجتمع، ووقع الذهول
عما كنت أراعيه، وانتقش في القلب ما قد رأته العين، وفي الضمير ما تسمعه الأذن،
وفي النفس ما تطمع في تحصيله من الدنيا. وإذا جمهور المخالطين أرباب غفلة،
والطبع بمجالستهم يسرق من طباعهم.
فإذا عدت أطلب القلب لم أجده، وأروم ذاك الحضور فأفقده، فيبقى فؤادي في
غمار ذلك اللقاء للناس أياماً حتى يسلو الهوى.
وما فائدة تعريض البناء للنقض ؟.
فإن دوام العزلة كالبناء والنظر في سير السلف يرفعه،
فإذا وقعت المخالطة انتقض ما بنى في مدة، في لحظة. وصعب التلاقي وضعف القلب.
ومن له فهم يعرض أمراض القلب وإعراضه عن صاحبه وخروج طائره من قفصه.
ولا يؤمن على هذا المريض أن يكون مرضه هذا سبب التلف،
ولا على هذا الطائر المحصور أن يقع في الشبكة.
وسبب مرض القلب أنه كان محمياً عن التخليط مغذواً بالعلم
وسير السلف فخلط فلم يحتمل مزاجه فوقع المرض.
فالجد الجد فإنما هي أيام وما نرى من يلقى ولا من يؤخذ منه،
ولا من تنفع مجالسته، إلا أن يكون نادراً ما أعرفه:
ما في الصحاب أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه
فالزم خلوتك، وراع - ما بقيت النفس - وإذا قلقت النفس مشتاقة إلى لقاء الخلق
فاعلم أنها بعد كدرة، فرضها ليصير لقاؤهم عندها مكروهاً.
ولو كان عندها شغل بالخالق لما أحبت الزحمة،
كما أن الذي يخلو بحبيبه لا يؤثر حضور غيره.
ولو أنها عشقت طريق اليمن لم تلتفت إلى الشام.
[mark=#40ff00]<><><><><><><><><><><><>[/mark]