تأملت عجباً، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه ويكثر التعب في تحصيله.
فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة.
حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر، لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس.
ونحو هذا تحصيل المال، فإنه يحتاج إلى المخاطرات والأسفار والتعب الكثير.
وكذلك نيل الشرف بالكرم والجود، فإنه يفتقر إلى جهاد النفس في بذل المحبوب، وربما آل إلى الفقر.
وكذلك الشجاعة، فإنها لا تحصل إلا بالمخاطرة بالنفس.
ومن هذا الفن تحصي الثواب في الآخرة. فإنه يزيد على قوة الاجتهاد والتعبد،
أو على قدر وقع المبذول من المال في النفس، أو على قدر الصبر على فقد المحبوب ومنع النفس من الجزع.
وكذلك الزهد يحتاج إلى صبر عن الهوى.
والعفاف لا يكون إلا بكف الشره.
ولولا ما عانى يوسف عليه السلام ما قيل له: " أيها الصديق " .
ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم
ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة. فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض
ذلك قامت النيات نائبة وهم لها سابقون.
وأكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم. فهم يحتقرونها مع التمام ويعتذرون من التقصير.
ومنهم من يزيد على هذا فيتشاغل بالشكر على التوفيق لذلك،
ومنهم من لا يرى ما عمل أصلاً لأنه يرى نفسه وعمله لسيده.
وبالعكس من المذكور عن أرباب الاجتهاد حال أهل الكسل والشره والشهوات.
أو ليس في الحديث يقال للرجل: اقرأ وارق فمنزلك عند آخر آية تقرؤها.
فلو أن الفكر عمل في هذا حق العمل لحفظ القرآن عاجلاً.