استعدوا من الآن لنصب أقواس النصر، والمهرجانات الخطابية، التى ستنظمها جوقة «حماس» فى كل مكان، إلا فى غزة، حيث سينكب البسطاء على حصر خسائرهم الفادحة، ولملمة جراحهم، وبالتالى لن يتمكنوا من تلبية مطالب أمراء الحرب بتوزيع «الكنافة» ابتهاجاً بدحر إسرائيل، وقد شاهد الملايين خالد مشعل وهو يمهد الأجواء فى «مهرجان الدوحة» لإعلان النصر، فضلاً عن قعقعة مجاهدى الفضائيات، بزعمهم أن مجرد بقائهم على قيد الحياة هو النصر بعينه، كأنه كان ينبغى أن يباد الشعب الفلسطينى عن بكرة أبيه، حتى يعترف أمراء حماس بالأخطاء الفاحشة، التى ورطوا الملايين فيها.

وحتى لو تمت إبادة كل الفلسطينيين ـ لا سمح الله ـ فلن يتوقف هؤلاء الأمراء مع أنفسهم ليواجهوها بصراحة، كما فعل الإسرائيليون بعد حرب لبنان، بل سيواصل «أبوالقعقاع وأبوجلامبو» التباكى على الصمت الدولى والتخاذل العربى أمام ممارسات إسرائيل، ولا أدرى لماذا يعوّلون على العرب والعجم، بينما لم يستمعوا إلا لطهران ودمشق، ويتهمون نصف شعبهم بأنهم «خونة وعملاء»، لا لشىء إلا لأنهم غير مثقلين بأجندتهم الأيديولوجية، فيكفيهم عبء واحدة من أكثر القضايا تعقيداً، هى التحرر الوطنى وإقامة دولة أفنوا لأجلها أعمارهم قبل ظهور «حماس» فى ظروف تعرفها المخابرات الإسرائيلية جيداً.

كل هذا لا يهمّ، فالمهم أن حماس انتصرت، وليمت آلاف البشر، ويفقد مئات الآلاف من الأحبة، ويحل الخراب على منازلهم وأرزاقهم، كل هذا يهون أمام اللحظة التى يطل فيها «أمراء الحرب» من فنادق دمشق والدوحة وطهران وبيروت، ليزفوا نبأ النصر إيذاناً بانطلاق احتفاليات جمع التبرعات، وينتعش «بيزنس الأنفاق»، التى يسيطر عليها الأمراء ويتربحون منها.

ويبدو أننا فعلاً أمة لا تتعلم، فما يجرى فى غزة هو استنساخ لادعاءات «حزب الله» اللبنانى، حين خرج حسن نصرالله ليعلن النصر بعد أن دمرت إسرائيل البنية التحتية وخلفت الآلاف من القتلى والجرحى، كما أصبح هناك شريط حدودى كمنطقة عازلة تهيمن عليها القوات الدولية، ومع ذلك راح سماسرة الحروب بالوكالة يطبلون ابتهاجاً بأكذوبة النصر، التى أطلقوها وصدقوها، فيما انكب الإسرائيليون على محاسبة قادتهم عبر تحقيقات «فينوجراد» لاستخلاص الدروس ومواطن الخلل، ثم عاودوا ضرب غزة بعد تلافى الأخطاء، لاستعادة ما يصفونه بقوة «الردع الاستراتيجى».

فى بلاد الغرب والشرق وأخرى تركب الأفيال، يتعلم خلق الله من تجاربهم الفاشلة، فمثلاً لم يسمح الألمان ولا الطليان ولا اليابانيون لسماسرة الحروب بتحريض البسطاء على لف خصورهم بأحزمة ناسفة، كما لم يسمحوا لبقايا النازيين والفاشيين بإعادة إنتاج الخطاب التعبوى، الذى كبّد أوطانهم أثماناً فاحشة، بل اعتبروا مجرد ترديده جريمة يعاقب عليها، فمن لم يتعلم دروس الفشل لا يحق له مواصلة تزييف وعى الأمم، وإفشاء روح العدمية بين أبنائها، وعادة لا تتصرف الشعوب على هذا النحو العبثى إلا حين يختطفها غوغائيوها، فتراها متبلدة حيال مصالحها، بينما تنتفض لعنتريات سماسرة الحروب ومروجى الخرافات.

غير أن جماعتنا «العربان» مصرون على المضى قُدماً فى طريق المكابرة وخداع الذات، والإصرار على الانتحار الجماعى، والقفز المتعمد على ما يفرضه الواقع من ضرورة القراءة الرصينة لقدراتنا وأدواتنا الممكنة، إلى التفكير بالتمنى، وإدمان الهزائم، والانبهار برطانة كل ناعق، والهيام بالكاريزمات الشريرة، متغافلين عما سببته من كوارث، بدءاً من نكسة ناصر، مروراً بحفرة صدّام، وصولاً لمأساة «حماستان».

أنبياء غزة الكذبة أتوا من الخبز الذى تربينا عليه، والكوب التى تجرعنا سمومها، ومن المناخ الآسن والعقول الراكدة والعيون المسترخية على المشهد اليومى القبيح ذاته، مشهد الزعيم الأوحد والكاتب الأوحد والمعارض الأوحد والفقيه الأوحد، أتوا من «أفعل التفضيل»، التى نرددها ببساطة القبلات الكاذبة التى يتفوق رجالنا على نسائنا فى تبادلها.. ويبقى رجاء بألا تزعموا النصر، حتى لو كنتم محقين فى مزاعمكم.