المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د.أحمد سمير
الإخوة الأحباء .. يهالني دائماً ما تصير إليه النقاشات الحامية من اتهامات متبادلة قد لا يليق أغلبها بنا كنخبة مثقفة وواعية كما نحسبها على الله تعالى ..
والخلاصة أني لا أزال أرى أن أغلب جوانب هذا الخلاف لفظية ، أو تنم (واعذروني على هذا اللفظ ) عن ضعف فهم النصوص الشرعية والأصول المتبعة في علم أصول الفقه لاستنباط الأحكام الشرعية .
كما أن أغلب الفتاوى تأتي للحديث عن مسائل محددة ، ونقوم نحن للأسف بتعميمها في كثير من الأمور دون تمحيص دقيق .
واسمحولي أن أدلي بدلوي مرة ثانية في الموضوع وأسأل الله تعالى أن يجنبني سهام التراشق اللفظي التي شاعت في هذا الموضوع ، وأن يلهمني الصواب في هذا القول .
أولاً : في الحديث الرئيس في الموضوع وهو قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه : "تناكحوا تناسلوا ...الخ الحديث " وفيه أمر جلي لم ينتبه الغالبية العظمى له .
وهو أن فعل الأمر يقتضي الوجوب ، وللوجوب في أصول الفقه درجات ما بين فرض وسنة مؤكدة والتي يسميها الحنفية (الواجب ) ومندوب (الذي نسميه السنة ) . والفرض يلزم بالفعل ويعاقب على الترك فيكون فعل الفرض ملزماً واجتنابه حراماً .
والسنة المؤكدة أو الواجب تحث على الفعل وتبغض الترك فيكون الفعل محبذاً له ثواب والترك مكروهاً .
بينما الندب يستحسن الفعل ولا يعاقب على الترك فيثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها .
وبما أن التناسل والتكاثر في الحديث جاءا كنتيجة لفعل النكاح ، والتي أجمعت الأمة على أن النكاح ليس بفرض واختلفوا في كونه سنة مؤكدة يكره تركها أو مندوب لا يأثم تاركها فمن واقع الاستدلال الشرعي الأصولي يصير التناسل غير فرض ، ويصير الامتناع عن التناسل في أعلى الدرجات مكروهاً ولا يتعداه إلى الحرام . وعلى هذا فإن جميع الأحاديث الواردة في تحبيب التناسل والتناكح لا يعني فعل الأمر فيها الفرض وبالتالي لا يعني الامتناع عن الفعل الوقوع في الحرام .
إذن فما هي المتغيرات التي تتداخل في هذه المسألة لتغيب عنا واقع هذه الحقيقة الشرعية :
1.
متغير اعتبار الامتناع عن الإنجاب قتلاً : ولنرجع ههنا إلى الآيتين الكريمتين الشهيرتين ، وبقراءة لغوية سليمة يتضح لنا أن الله عز وجل أسند فعل القتل لشخص يوقع الفعل على (ولده ) واسم الولد والأولاد هو ناتج عن فعل يلد ، إذاً فلا يتحقق القتل دون وجود (ولد مولود) اي خارج من رحم أمه ، وهو نهي شرعي واضح يفيد حرمة القتل وتغليظ عقوبته على من يقوم بهذا الفعل خشية الفقر أو الإملاق .
وإذا أدرنا النظر قليلاً سنجد أن الاختلافات الشرعية في إباحة الإجهاض وتحريمه لم تكن ذا مجال أصلاً لو كان الاتفاق على هذه الآية باعتبارها محرمة لفعل الإجهاض على الإطلاق . وبالتالي تسقط حجية الآية الكريمة في التدليل على أن الامتناع عن التناسل بمثابة القتل .
وقد أباح جمهور الفقهاء إجهاض المرأة لذاتها قبل أربعة أشهر ، حيث تكون البويضة أو النطفة بلا روح ، بينما أكسب الفقهاء الجنين بعد الشهر الرابع أهلية وجوب حفاظاً على اثنين من الكليات الخمس وهي العرض والمال . وللتأكد من هذا الكلام يمكن مراجعة باب الديات ليعرف عقوبة قتل الجنين قبل أو بعد الشهور الأربعة ليعرف بالتالي مدى الجرم الواقع وفق هذا الفعل ، فالجنين قبل الشهور الأربعة فيه حكومة عدل وهي مرتبة أقل من الدية بينما بعد الشهور الأربعة فيه دية ، ولا يوجب قتل الجنين القصاص أبداً .
ويجب للجنين حقوق كالميراث والنسب من منطلق الحفاظ على العرض والمال وليس لسبب آخر .
وعلى هذا يتضح أن مسألة الامتناع عن الإنجاب لا تعد قتلاً بأي حال .
وبالتالي يبطل ما تعلق بها كفكرة الامتناع عن الإنجاب بهدف تأمين الرزق ....الخ حيث الدخول في الفروع عند الاتفاق على الأصل يعد جدلاً منهياً عنه شرعاً وسيأتي تفصيل مسألة الرزق .
2. متي يحرم الامتناع عن الإنجاب أو تحديد النسل أو تنظيمه ؟
يمكن تغيير بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالمباحات والسنن ورفعها إلى درجات الوجوب ، أو إيقاف العمل ببعض المكروهات وإباحتها وفقاً لقاعدة أصولية تسمى المصالح المرسلة . ويختلف الحكم الشرعي وفق اختلاف درجة المصلحة أو دفع الضرر الناتجة عنه وفق تغير الزمان . من ضروري ، وحاجي ، وتحسيني .
فمن حرم تنظيم النسل من العلماء استند إلى هذه القاعدة بأن رد التحديد أو التنظيم إلى مخططات تهدف إلى تقليص عدد أبناء الأمة ، أو إنشاء أمر واقع بتغيير ديموجرافي للتركيبة السكانية ....الخ وبالتالي فإن التحريم ههنا لا يترتب على فعل التحديد وإنما على المصلحة المرسلة الموقوفة بهذا التحديد .
وعليه فقد اتفق العلماء على أن تحديد أو تنظيم النسل في بيئات معينة وتحت ظروف معينة حرام كما هو الحال في الدول المحتلة ، والأقليات الإسلامية وغير هذا كلٌ وفق ظروفه ، إذاً فالحكم هنا نسبي وفق الظروف وليس مطلقاً ، وهو ما يفسر اختلاف الفتاوى بين العلماء .
3. منطلق التحريم الناتج عن دفع الاعتداء على الكليات الخمس وإثبات مبدأ حرية الإنسان . وهو التحريم المتفق عليه إجماعاُ بمنع التحديد القسري بتحديد عدد المواليد لكل أسرة أو اتخاذ تدابير تمنع القدرة على الإنجاب كالتعقيم وخلافه نظراً للاعتداء على حرمات المسلم وحرية الإنسان .
4.
لم يتبق إلا فكرة التحديد الطوعي (أو المسمى بالتنظيم ) الذي يتم بعيداً عن مفهوم التحديد القسري ، ولا يقع تحت طائلة الظروف التي يتم فيها تفعيل قاعدة المصالح المرسلة . وفيها مسألتان :
الأولى : مسألة الرزق والثانية مسألة الاستطاعة . وكلتاهما متلازمتين .
- فالرزق بيد الله تعالى ، والرزق هو ما انتفع به الشخص وليس ما ملكه ولا حازه ، وبالتالي فلا يجوز إدخال مسألة الرزق في مسألة التنظيم ، فرب موسر يعسر في لحظة ، ورب معسر يوسر في يوم ، إذاً فهو مسألة احتمالية لا يمكن أن ينبني عليها حكم شرعي فقهي ، وإذا كان لا يجوز الاحتجاج به في سياق المنع فلا يجوز كذلك الاحتجاج به في سبيل الاستحباب سواء بسواء .
- أما ما يمكن أن يبنى عليه الحكم الشرعي فهو مسألة الاستطاعة .. وبالقياس الشرعي على الأساس الذي يقوم عليه الإنجاب وهو النكاح . حيث النكاح مؤسس على فكرة استطاعة الباءة وفق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : " من استطاع منكم الباءة فليتزوج ) فبالقياس الشرعي يصير الحكم من استطاع منكم الباءة فلينجب ، فباءة الناكح لا تنفصل عن باءة الإنجاب .
- ومفهوم الباءة وهو الذي يتمحور حول فكرة الاستطاعة والقدرة ، الجسدية البدنية ، والمادية ، والمعنوية النفسية . هو العنصر الحاكم في الزواج والإنجاب .
وبالتالي فإن للزوجين المسلمين أن يحددا قدر استطاعتهما النفسية والمعنوية والتربوية والجسدية وأخيراً المادية مقدار ما ينجباه من أبناء بما يضمن الأداء الأفضل وإنتاج مسلم قوي أحب إلى الله تعالى من مسلم ضعيف .
ولكن هذا لا يمنع وجود بعض المسائل التي يكون فيها الحكم لأصل الأمور وطبيعتها ويختلف فيها الحكم وفق اختلاف طالبي الفتوى .
فلو شكت امرأة من أن زوجها لا يرغب في الإنجاب ضد رغبتها هي ، يكون الحكم الشرعي أن لها أن تطلب الطلاق لما يصيبها من ضرر حيث الإنجاب من مقاصد النكاح الشرعية .. وهكذا .
أردت من هذه الرؤية المتواضعة التي صغتها عما حبا الله به العبد الفقير من دراسة دينية أن أوضح ما يلي : فيما يخص الشكل : أن اختلاف الفتاوى ليس مرجعه اختلاف الدين أو تناقضه حاشا لله تعالى ، بل مرجعه لاختلاف الأساس الشرعي الذي ينبني عليه الحكم ، واختلاف القاعدة الشرعية الحاكمة في كل مسألة ، واختلاف حال السائل ، بينما الأصل واحد ولا خلاف عليه . وفيما يخص الموضوع : أن تحديد النسل القسري محرم باتفاق العلماء أن تحديد النسل الطوعي (تنظيم الأسرة ) مباح لكل زوجين وفق استطاعتهما النفسية والمادية والجسدية شريطة عدم بغي أحد الزوجين على الآخر . أن تحديد النسل الطوعي إذا تعارض مع المصالح المرسلة للأمة نتيجة تغيرات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية ...الخ قد ينتقل من مدار الإباحة إلى مدار التحريم .
هذا والله تعالى أعلى وأعلم .
وتقبلوا جميعاً خالص مودتي وتقديري ومحبتي
المفضلات