رغم تفضيلى بشكل عام لعدم الدخول فى المواضيع الجدالية الخلافية التى تفرق و لا تجمع..... لانى شخصيا احاول دائما ان ابحث عن الشئ المشترك الذى يجعلنى اتوافق مع الناس و ليس عن نقاط الخلاف التى تبعدنى و تفرقنى عن اى انسان ايا كان...... لانه ما الفائدة؟.... ما الفائدة التى تجعلنى ابحث عن الخلاف الذى لا يتسبب الا فى الانقسام و التحزب و التعصب و الغضب و المشاعر السلبية و الاخطاء التى تؤدى فى النهاية الى ان يخسر الناس بعضهم البعض..... من المؤكد انه لا فائدة من هذا المنهج على الاطلاق..... الذى لا مكسب منه الا خسارة مؤكدة للجميع..... لانك حتى ان اثبتت للغير خطأ رأيه و صواب رأيك، فقد تخسره كأنسان و تخسر ايضا نفسك فى المسلك الذى اتخذته لكى تتحاور معه من غضب و شتائم و اتهامات و تعصب مذموم و غيره الكثير من الاخطاء......
اقول انه رغم ان هذا موقفى و تفضيلى الشخصى الا اننى وجدت انه من المفيد ان اتدخل لتوضيح بعض الامور التى ترد على تساؤلات كثيرة فى اذهان الكثيرين فى بضع نقاط ..... اثارها هذا الموضوع و اثارتها اراء زواره..... و ارجو ان يتسع صدر الجميع لارائى
اولا: العبادة فى المسيحية لله الواحد وحده..... الذى له كل القداسة و القدسية المطلقة جل و علا..... لكن حينما نتكلم عن البابا شنودة مثلا و نقول قداسة البابا..... فنحن نتكلم هناعن شئ مختلف تماما..... اذا كانت القداسة المطلقة الكلية هى لله جل و علا فقط لا غير، الا ان البشر- فى المسيحية- مطالبون بالتعلم من الله جل وعلا فى القداسة و القياس طبعا و بكل تأكيد مع الفارق...... الفارق هو ان قداسة الله جل و علا هى قداسة ذاتية كلية و مطلقة.... اما القداسة المطلوبة من البشر فهى قداسة نسبية مكتسبة نتعلم فيها من الله لكى نرتقى و نسمو فى اخلاقنا و ترتقى و تسمو ارواحنا و نصبح بشرا افضل..... نحن حينما نقول ان الله محبة، نكون بالتبعية مطالبون بان نحيا طبقا لهذه المحبة و نتعلم ان نحب غيرنا من البشر ايا كانت اديانهم و الوانهم و اجناسهم.... و لا شك ان هذا يتوافق مع مشيئة الله جل و علا من خلق الانسان الذى ميزه عن غيره من المخلوقات بروح خالدة طاهرة نقية و عقل و تفكير و حكمة لا تتواجد عند غيره من الكائنات.... الخلاصة ان قداسة البشر فى الفكر المسيحى معناها ببساطة : الطهارة. طهارة السيرة و طهارة الحياة و طهارة السلوك و طهارة الاختلاف مع الناس و طهارة الاخلاق..... و غيرها من الاشياء لتى تجعل الانسان لا ينسى اصله من كونه كائنا ساميا راقيا اراده الله سبحانه و تعالى كذلك..... لانه لو نسى الانسان هذه الامور التى تميزه عن غيره من الكائنات، و عاش بدون هذه الميزات التى ميزه بها الله سبحانه و تعالى لتشابه مع الكائنات الاقل منه فى سلم المخلوقات...... و اذا طبقنا هذا التوضيح على حالة شخص مثل البابا شنودة، سنجد انه حاول فى حياته ان يكتسب هذه القداسة بطهارة السيرة و السلوك منذ بدء حياته التى ترك فيها الدنيا و ذهب للصحراء لكى يتعمق فى الحياة مع الله..... الرهبنة فى المسيحية هى طريقة حياة استثنائية لعدد قليل من البشر ارتضوا هذه الحياة برغبتهم الخالصة فى التفرغ للعبادة و الحياة مع الله و السمو فيها..... اعلم جيدا يا اخوتى المسلمين انه لا رهبانية فى الاسلام و بالتالى المبدأ نفسه مرفوض فى الاسلام.... حسنا جدا.... لكن ارجو منكم ان يتسع صدركم للاختلاف مع الغير بدون الافتراض المسبق ان احدنا خطأ و احدنا على صواب..... الموضوع ببساطة هو ان احد الاديان يسمح بشئ بينما لا يسمح دين اخر بنفس الشئ و هذا طبيعى و الله سبحانه و تعالى هو الذى سيتولى الفصل فى اليوم الاخير .... ما المشكلة؟ كل دين له مسموحاته و ممنوعاته و فى النهاية لكم دينكم و لى دين.... لماذا نركز على الخلافات التى تفرق بيننا و لا نركز على المشترك بيننا من ضرورة ان يتحلى الانسان بمكارم الاخلاق و ان يعيش ليكون انسانا افضل يستفيد من خلقه على الارض و ينتفع منه الناس من حوله..... و اعتقد ان هذا قد تحقق فى حياة شخص مثل البابا شنودة كما سيأتى فى كلامى لاحقا.....
ثانيا: قداسة البابا شنودة- بعد ان وضحنا معنى القداسة المقصود- هو شخص استثنائى بكل المقاييس. هو من القلة القليلة الباقية من عصر الشخصيات الكاريزمية التى تميز بها القرن العشرين. هذه الشخصيات اثرت فى زمانها و من حولها تأثيرا كبيرا و كان لها بصمتها على زمانها..... كانت تلك الشخصيات عملاقة.... عملاقة فى التفكير عملاقة فى الثقافة عملاقة فى الحكمة عملاقة فى الشخصية..... باختصار شخصيات عملاقة فى عناصر كثيرة جعلتها شخصيات قيادية غير عادية لا يجود الزمان بمثلها الاعلى فترات طويلة. لو طبقنا العناصر السابقة على البابا شنودة لوجدنا انه بجانب كونه قمة دينية تخص المسيحيين المصريين الا انه كانسان قد تجاوز هذا الوضع بكل المقومات الشخصية التى سبق ذكرها..... فهو اديب و شاعر و صحفى و مفكر و مثقف موسوعى..... اتذكر اننى فى سنة 1995 حينما كنت مازلت فى الكلية ان اتى الحوار مع احد دكاترتنا الذى كان يدرس لنا احد المواد المهمة..... اتى الحديث لذكر البابا شنودة.... فما كان من هذا الدكتور الا ان قال ان البابا شنودة باحث من الطراز الاول.... فسألناه كيف عرفت؟ فقال انه اثناء تحضيره لاحد الكتب احتاج الى زاوية بحثية معينة كان لابد ان يرجع فيها الى البطريركية..... فطلب مقابلة البابا شنودة و قابله فى جلسة اخذ منها هذا الدكتور كل العلم الذى يريده و اجاب البابا على كل اسئلته باستفاضة و علم غزير جعله يقول عنه ما قال لنا..... هذا موقف عابر لم يكن هذا الدكتور مضطرا ان يقوله لنا الا لانه قد حدث معه شخصيا و تأثر به هو تأثرا كبيرا و عرف منه مقدار علم و ثقافة البابا شنودة..... تخيل مثل هذه المواقف و تكرارها مع عشرات الالاف من الاشخاص على مر الزمن الطويل للبابا كبطرك لاقباط مصر بل و قبل ذلك لانه كشخصية ذات مواصفات خاصة كما شرحنا لم تأت هذه الصفات فجأة انما كانت صفات اصيلة فى شخصيته نمت و توهجت على مر السنين.....
ثالثا: كل ماسبق فى النقطة ثانيا هو سر الاهتمام الاعلامى الكبير بحدث وفاة البابا شنودة.... كثير من الناس مسلمين قبل المسيحيين تعاملت مع البابا و عرفت كيف كان انسانا راقيا قبل اى شئ او اعتبار اخر.... هل كانت القنوات الخاصة مضطرة ان تكرس كل هذا الوقت لهذا الحدث؟ و لماذا يا ترى؟ نعم هو حدث اعلامى مهم لطائفة من ابناء هذا الوطن، لكن حجم التغطية و نوعيتها له اسباب اخرى غير مجرد انه حدث مهم..... و لو حاول احد ان يستمع لحديث شخص مثل الدكتور على السمان مثلا عن البابا، لعرف سر تأثر الكثيرين بالبابا..... لقد لمس الباب هؤلاء الناس على المستوى الشخصى و عرفوا معدنه الاصيل و كم كان انسانا راقيا فى الاساس و قبل كل شئ...... لم يكن احد من هؤلاء الذين ملئوا الساعات الماضية منذ وفاة البابا على كل القنوات الخاصة و الرسمية مضطرين ان يقولوا عن البابا كل هذا الكلام و المدح..... لا لشئ الا لانهم احسوا ما يقولون.... نقطة اخرى احب ان اذكرها و هى انه اذا كان هذا هو حال القنوات الخاصة لانها مثلا تبحث عن الاضواء و الشو الاعلامى اينما كان، لكن ما تفسير اهتمام التلفيزيون الرسمى بشخص البابا بل و تخصيصه كل هذا الوقت لتغطية الحدث بهذا الشكل؟ هل هو مجاملة الاقباط اللى من كام شهر بس كان التلفيزيون الرسمى بيحرض الناس عليهم و يقولهم انزلوا الحقوا الجيش بتاعكوا من الاقباط اللى بيهاجموه، والا احنا ببنسى بسرعة؟ و ا فتحوا القناة الاولى للتلفزيون المصرى الان لتعرفوا ما اقصد.......
رابعا: الانسان مواقف.... و كلنا ماضون فى الطريق الى الموت و هذه حقيقة مؤكدة..... بل ان الموت هو الحقيقة المؤكدة الوحيدة فى هذه الحياة..... يموت الانسان و تبقى مواقفه..... طيب لو طبقنا هذا الكلام عن البابا شنودة ماذا نجد؟ لا نجد الا مواقف وطنية من نوعية موقفه من زيارة الاقباط للقدس و رفضه ان تتم هذه الزيارة الا و يد الاقباط فى ايدى اخوتهم المسلمين.... هذا موقف وطنى صمد و سيصمد على مر الزمن للبابا فيه اعلاء للوطن و شأنه و الوحدة بين ابناءه المسلمين و المسيحيين.... و انتصار للقضية الفلسطينية التى نناصرها جميعا و كلنا جميعا مسلمين و مسيحيين على استعداد للشهادة فى سبيل تحرير ارضها..... حتى موقف البابا من السادات و رغم الاذى الذى وقع على البابا من السادات الا ان البابا لم يذكر السادات بسوء ابدا سواء فى احاديثه الخاصة او العامة..... هذا من ادبه و نبله و رقى اخلاقه..... مع انه لو اراد العكس لما لامه احد..... البابا شنودة كان راعيا لشعبه القبطى فى مصر، و بالتالى كان يحاول كراعى صالح ان يحافظ على رعيته و ابناؤه و الا سيكون لا يؤدى واجبه..... الموقف المعلن سواء الشعبى او الرسمى يوضح رأى الناس عامة و المسئولين خاصة فى كيف كان البابا شنودة صمام امان للوحدة الوطنية فى وجه كل الاحداث التى واجهت شعبه و ابناؤه من حوادث ارهابية و قتل و تمييز و عدم مساواة فى الوظائف و خلافه الكثير و الكثير على مر السنين الطويلة التى تولى فيها قيادة شعبه القبطى على مدار 40 سنة...... و ايضا توضح مدى القلق الذى ينتاب المسلمين فى مصر قبل المسيحيين من الاحتياج الى شخصية من نفس مدرسة البابا شنودة..... انسانا راقيا فى المقام الاول ثم قائد حكيم يستطيع التعامل مع الاحداث بحكمة تستطيع ان تحتوى هذه الاحداث و الخروج منها بسلام يصب فى صالح الوطن الذى عاش و مات و هو يحمل هم الحفاظ على الوحدة بين ابناؤه......
اسف للاطالة لكن احسست انه كان لابد من ان يقف شخص ما لكى يوضح بعض الامور بهدوء و يخرج بمحاولة للتوافق من دوشة الاراء الغاضبة و الصاخبة و الاتهامية التى لا و لن تفيد الا زيادة الخلاف..... نحن فى النهاية انسان واحد خلقه الله سبحانه و تعالى امما مختلفة لكى تتعارف و ليس لكى تتعارك..... انسان يخسر الكثير اذا خسر اخوه الانسان ايا كان دينه او لونه او جنسه..... يخسر نفسه اولا.... و ما الفائدة اذا ربح الانسان العالم كله و خسر نفسه؟
المفضلات